عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 03-05-2012, 05:22 AM
الصورة الرمزية أم عبد المنعم
أم عبد المنعم أم عبد المنعم غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 1,256
افتراضي

سادساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت , وإنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً , فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً , ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره , ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسُن عزاؤه عند نزول البلاء: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).

سابعاً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بتفاوت المصائب , فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين فهي هينة سهلة يسيرة , لأن المصيبة في الدين هي أعظم مصيبة , ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت , فإذا حصّلت الأدنى من المصائب فتسلّ بذلك عما هو أعلى وأعظم واحمد الله على ذلك.
قال السفاريني عليه رحمة الله : المصائب تتفاوت , فأعظمها مصيبة الدين، نعوذ بالله من ذلك فإنها أعظم مصيبة, والمسلوب من سُلِب دينه.
وكل كسرٍ لعل الله جابره ......... وما لكسر قناة الدين جبرانُ
فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب و الخطايا ومن فوات الجمعة والجماعة وأوقات الطاعة وولوغٍ في المحرمات ومن انتهاكٍ للحرمات , وانتهاك لحدود الله وتجاوز لها فاعلم أنه المصاب حقاً , ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يحس بألم المصيبة ولا يشعر:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ). وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس ثم في الأهل ثم في المال , وكلها تتفاوت وتتدرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وهذا في غاية الخسة كما تعلمون.
ولذا يقول شريح عليه رحمة الله: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل عليها أربع مرات , أحمده إذ لم يجعلها أعظم مما هي عليه وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب , وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب , وأحمده أن لم يجعلها في ديني فإن من كل شيءٍ عوضاً إلا الدين).
من كل شيءٍ إذا ضيّعته عوض ......... وما من الدين إن ضيعت من عوضِ

ثامناً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بأن الدنيا فانية زائلة , وكل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول , لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق , إنها ألم يخفيه أمل , وأمل يحققه بإذن الله عمل , وعمل يقطعه الأجل , وعندها يجزى كل امرئٍ بما فعل , إنها الدنيا إن حلت أوحَلت , وكست أوكست , ودنت أودنت , وكم من ملكٍ رفعت له علامات , فلما علا مات.
هي الأيام لا يبقى عزيز ......... وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليك نجم ...... وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً , وإن سرّت يوماً أحزنت شهوراً , وإن متعت كثيراً منعت طويلاً , لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور .
اليوم عندك دلّها وحديثها ....... وغداً لغيرك كفها والمعصمُ
قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). ما أدق التعبير القرآني ! عندما يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم توزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً , لكنها حين تقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل لعبة أطفال.
ثم تأتي الصورة القرآنية لتصور الدنيا كزرع أعجب الزارع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد , فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً وينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية.
وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن ؟ يستحق شأنها أن يحسب حسابه وينظر إليه ويستعد له , وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا وهي لا تنتهي إلى حطامٍ كالنبات البالغ أجله , بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) فإنما يستمد قوامه من الغرور الخادع يلهي وينسي وينتهي بأهله إلى غرور خادع , فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على الغرور الخادع ليحقق عقيدته ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها , فما هي إلا حطام أو كظل وسراب.
روى الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن قال : قال صلى الله عليه وسلم:
(مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).
أحلام نوم , أو كظلٍ زائلِ ....... إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ
يقول بعض أهل العلم: (لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه فيما بسط لنا منها , ذلك لم يرضَ الله لنبيه بالدنيا , فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبه له أحب إلي من أكون كما كره له وسخط).
وأجمل بقول ابن القيم من قول يوم قال يشبه الدنيا يقول: (أشبه الأشياء بالدنيا الظل , تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلصٍ وانقباض , تتبعه لتدركه فلا تلحقه , وأشبه الأشياء بالدنيا السراب): (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره , فإذا استيقظ علم ذلك أن لا حقيقة له.
ترجو البقاء بدارٍ لا ثبات لها ......... فهل سمعت بظلٍ غير منتقل ؟
حياتها رصد وشربها كدر ............ وعيشها نكدٌ وملكها دولُ
من ذا الذي قد نال راحة فكره ؟ ..... في عسره من عمره أو يسره ؟
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى ........ أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قلّه ............. ويظل هذا ناصباً في كثره
سُن البلا ولكل شملٍ فرقة ............ يُرمى بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ ........ حكم القضاء بحلوّه وبمرّه
أوَ ما ترى الرجل العزيز بجنده ....... رهن الهموم على جلالة قدره ؟
فيسرّه خيرٌ وفي أعقابه............... همٌ تضيق به جوانب صدره
وأخو التجارة لاهث متفكّر .......... مما يلاقي في خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الر .... جل الوحيد كمينة في صدره
ولرب طالب راحة في نومه ......... جاءته أحلام فهامَ بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى ....... غصص الفطام تروعه في صغره
ولقد خبرت الطير في أوكارها ....... فوجدت منها ما يُصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في برّه ......... والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميت ............. فاستخرجته من قرارة قبره
تالله لو عاش الفتى في دهره ........... ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذة ............. متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله .......... كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله في أن يفي ......... بمبيتِ أول ليلة في قبره
كيف الفعال أيا أخي في ما ترى ؟ .... صبراً على حلو القضاء ومرّه
صبراً ! فغمسة في الجنة تنسي كل شقاء وهم وبلاء , وغمسة في النار والعياذ بالله تنسي كل لذة ونعيم.
لكل شيء إذا ما تم نقصان ....... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ..... من سرّه زمن ساءته أزمان
كم من مؤمل أدركه الموت قبل تحقيق أمله , وكم من زرع عاش , ومات زارعه.
لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي رحمه الله وضع رأسه في حجر أخيه ثم أغمي عليه فقطرت دمعة من دموع أخيه على خده فأفاق من غشيته متمثلاً بقول الشاعر:
يؤمل دنيا لتبقى له ............ فمات المؤمل قبل الأمل
وبات يروّي أصول النخيل ..... فعاش النخيل ومات الرجل
ثم قال لأخيه :
أخيّين كنا فرق الله بيننا ...... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهر ؟
ثم لقي الله عز وجل.
هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.
إنما الدنيا هبات ...... وعوارٍ مستردّة
شدة بعد رخاءٍ ........ورخاءٌ بعد شدة

ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
تذكر ما في البلاء من لطائف وفوائد , منها على سبيل المثال:
أولاً: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب إلى الله عز وجل , فالتوبة لله تعالى أعظم عزاء له من كل شيء.
يقول بعض السلف : إن العبد ليصاب بالمصيبة فيذكر ذنوبه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب دمعاً من خشية الله فيغفر الله عز وجل له.
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل وذلك ملاحظ في المصائب , وذلك والله خير من كثيرٍ من طاعات الطائعين فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة له والدعاء وهذا من أعظم فوائد البلاء، فببعض الأثر : إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه ودعاءه.
رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ,ويوجب له الإقبال على الخالق الذي لا شريك له، فالمشركون وهم مشركون حكى الله عنهم إخلاص الدعاء عند الشدائد: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فكيف بالمؤمنين ؟
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رق قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم .
وأخيرا: معرفة قيمة وقدر العافية , فإن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدها , فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها , وبضدها تتميز الأشياء , فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به وانشرح صدره وانفرج همه بإذن ربه.


توقيع : أم عبد المنعم


رد مع اقتباس