إضافة رد

  #1  
قديم 06-19-2011, 06:34 AM
سمير السكندرى غير متواجد حالياً

شيوخ رياض الجنة
۩۞۩ تعرف على الشيخ سمير السكندري ۩۞۩

 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
العمر: 56
المشاركات: 618
افتراضي إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ للاخ سمير السكندرى


وجوب الاستسلام لله وحده


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد أوجب الله عز وجل على جميع خلقه أن يسلموا له سبحانه وتعالى، قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، وجعل الله عز وجل دين الإسلام دين الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وجعل هذا الاسم الشريف المكرم عنده سبحانه وتعالى علماً على الدين المقبول الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، قال تعالى:وجوب الاستسلام لله وحده


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد أوجب الله عز وجل على جميع خلقه أن يسلموا له سبحانه وتعالى، قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، وجعل الله عز وجل دين الإسلام دين الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وجعل هذا الاسم الشريف المكرم عنده سبحانه وتعالى علماً على الدين المقبول الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)[آل عمران:19] . وقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). وقال في دعاء استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ولحاجة الإنسان أن يتذكر هذا المعنى دائماً -معنى أن يسلم لله عز وجل- كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول المسلمين يكرره في أدعيته المختلفة، وهذا امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]. وأنت أيها المسلم! حين تقول: اللهم لك أسلمت، تتذكر أولاً نعمة الله عز وجل عليك بهذا الدين، فأنت أسلمت فقد دخلت في الإسلام، وأنعم الله عز وجل عليك بشهادة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فأنت أسلمت قلبك ونفسك لله عز وجل، وهذا إسلام القلب والوجه لله، بأن يجعله خالصاً في توجهه وتألهه وعبادته لله سبحانه وتعالى، وهذا أصل معنى الدين، قال عز وجل: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ )[لقمان:22-23]، فليس ثم إلا مسلم وكافر، فمن أسلم وجهه -أي: وجهته وتوجهه وإرادته ونيته لله عز وجل فهو الذي استمسك بلا إله إلا الله، وهي العروة الوثقى، ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان:23]. إذاً: ليس هناك إلا دين الإسلام الذي يقبله الله عز وجل، أن يسلم الإنسان وجهته وعبادته لله وحده لا شريك له، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا الناس إلى هذه الكلمة مجدداً دعوة الأنبياء جميعاً، فإنهم دعوا إلى هذه الكلمة كلهم، قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهذا من أعظم ما يدل عليه ما جاءت به الرسل جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم بدءوا بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى عن أنبيائه جميعاً: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. ومن أحسن ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل أن قال: (اللهم لك أسلمت) بعد قوله: (والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق)، فإن الشهادة بأنهم حق شهادة بأنهم جاءوا بدعوة التوحيد الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد خلافه، بل من أشرك بالله حبط عمله، قال عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]. وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] ، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فالضلال والافتراء العظيم البين في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو ينافي أصل دين الإسلام، فحين تقول: اللهم لك أسلمت، تسلم وجهك وقلبك كما قال عز وجل مادحاً إبراهيم عليه السلام: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] ، أي: قد سلم قلبه لله، فصار لله عز وجل توجه هذا القلب، وإراداته ورغبته، وقال إبراهيم عليه السلام في دعائه: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، أي بمعنى: بقلب قد سلم لله عز وجل، فالمسلم هو الذي أسلم لله سبحانه وتعالى. ......


معنى الاستسلام لله تعالى


الإسلام يحمل معنى الخضوع والانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، كما قال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36] ، وهذا الضلال في ترك الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل مناف لدين الإسلام، نعوذ بالله من ذلك. إن معنى (اللهم لك أسلمت) يقتضي استسلاماً وانقياداً وخضوعاً وذلاً ومتابعة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولذا كان من أبى أن يقبل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى كان راداً لأوامر الله، متكبراً على شرع الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك مناقضة للإسلام، ولذا نجد أن العبد المؤمن يرى نفسه مملوكاً لله سبحانه وتعالى، تحت شرعه وأمره، له سبحانه وتعالى عليه الأمر كما له الخلق، كما أنه تفرد بالخلق فله سبحانه وتعالى عليه الأمر: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] . والدعوات الباطلة التي تنادي بأن الإنسان حر في أن يأتي ما يشتهي، ويترك ما يشتهي، ويفعل ما يريد، ويترك ما يريد دون التزام بالشرع، حتى لو أقر بوجود الله، هذه الدعوة منافية لأصل التوحيد والإيمان، لا يقبل الله عز وجل من العباد إلا أن يسلموا له سبحانه وتعالى، ويستسلموا لأوامره الشرعية، ولا يقابلوها بشبهات ولا بشهوات، ولا يعارضوها بتقليد أعمى أو بمصلحة أو سياسة أو غير ذلك، إنما الأمر أن يقبل الإنسان شرع الله سبحانه وتعالى كاملاً، ورفضه لأي أمر من أوامر الله إباءً واستكباراً قدح في أصل الدين، وما كان كفر إبليس إلا بترك هذا الاستسلام، فقد أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولا تنفعه طاعاته السابقة كما لم تنفع إبليس عبادته قبل ذلك؛ لأنه إذا رد أمر الله عز وجل في أمر واحد فقد نفض يديه من معنى العبودية، ولا يبقى للإسلام معنى، ولا يبقى للدين معنى مع انتقاض معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، ولذا كانت دعوة أهل الإسلام دائماً إلى الانقياد لله سبحانه وتعالى، وتوجيه القلوب إلى وجهة واحدة.. إلى مرضاة الله عز وجل. وأما من قبل أمر الله ولكنه خالف وعصى، وهو مقر على نفسه بالذنب والمعصية، وهو يقر أنه مستحق للعقاب لمخالفته أمر الله عز وجل، فهذا نقص إسلامه وإيمانه ولم ينتف بالكلية؛ وذلك لأن أصل معنى الإسلام من الانقياد والقبول بشرع الله موجود في قلبه، وأما الكفر والردة عن الدين فبالإباء أو الاستكبار بترك القبول والانقياد القلبي الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد سواه.


أعلى الصفحة


الفرق بين الشرك وما دونه


لقد بين سبحانه وتعالى الفرق بين الشرك وبين ما دونه في قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، فبين بذلك أن العبد ربما تقع منه الذنوب، وربما وقعت منه أيضاً الكبائر كما دلت عليه الآية الكريمة، فإنها قسمت المخالفة لما أمر الله عز وجل به إلى شرك وإلى ما دون ذلك، فلا بد من أن نفرق بينهما كذلك، فإن الله لا يغفر لمن أشرك به بعد قيام الحجة، أي: لمن لقي الله مشركاً وقد بلغته دعوة الرسل بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فكذبها أو أبى أن يقبلها، وكلاهما ناقض لما فطر عليه الإنسان من التوحيد، وما شرع الله عز وجل لجميع الرسل من الإسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى. فإن الإباء والاستكبار غالباً متلازمان، نعوذ بالله من الكفر والنفاق، والله سبحانه وتعالى بين أنه يغفر ما دون الشرك ويشمل ذلك الكبائر والصغائر لمن شاء، وإن كان العاصي في خطر هذه المشيئة، فإنه قد دلت الأدلة القطعية على أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار فيبقى فيها مدة يحترق فيها، حتى إذا صاروا فحماً أذن لهم بالشفاعة، فأتي بهم ضبائر ضبائر - أي: جماعات جماعات- فيلقون في نهر الحياة -نهر من أنهار الجنة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يأذن الله عز وجل لهم في دخول الجنة، ولا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود لموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك نقول: إن من يعصي الله سبحانه وتعالى في خطر عظيم، فإن غمسة في النار تعدل كل نعيم الدنيا، بل تزيله بالكلية، فإنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط. وما أكثر من يستهين بلحظات البقاء في النار! بل يقول: لا بد أن ندخلها ونحترق فيها أياماً، وهذا والعياذ بالله من التهاون بخطرها! وهذا من أسباب النفاق، وربما أدى بالعبد إلى الكفر، وهذا هو الخطر الأشد للمعاصي والكبائر والبدع خصوصاً، وذلك أنها من أسباب سوء الخاتمة، وإنما قلنا: إنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، ولا بد أن يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ولكن ما أدراك أيها العاصي المصر على معصيتك أنك تلقى الله عز وجل بهذه الكلمة؟! ألا تخشى أن يحبط الله عز وجل عملك وقولك بسبب الذنوب ويختم لك بخاتمة السوء؟! فإن المعاصي بريد الكفر، وسميت كثير من المعاصي كفراً لأنها تودي وتقود إليه، وما أكثر من يستهين بالمعاصي، ثم يستهين بالإيمان كله! وربما قاده فعل المعاصي والمداومة عليها إلى أن يستحلها أو أن يأبى شرع الله فيها، فإن الإنسان لا يتحمل طويلاً ذلك الصراع الذي في نفسه بين داعي الإيمان وبين دواعي الكفر والشيطان، إنه يتحدث في نفسه أنه مخطئ مذنب، وأنه يستحق العقاب، فهذا داعي الإيمان يذكره بالتوبة إلى الله، وداعي الشيطان يرغبه في دنياه، ويرغبه في مزيد من الشهوات المحرمة، وأن ينال منها حتى ولو كان على حساب آخرته. فهذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان لا بد أن يحسم، ولا بد أن ينتهي إلى صالح أحد الطرفين، أما أن يضل على حاله فغالباً ما لا يستمر طويلاً، فإن الأمر قد يبدأ برغبة وشهوة، لكنه قد يصل إلى أمر الإباء والعياذ بالله، فهؤلاء قوم لوط بدأ أمرهم بالشهوة المحرمة -شهوة فعل الفاحشة وإتيان الذكور في مجالسهم- ولكن آل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن ردوا ما جاء به رسولهم لوط عليه السلام، فكفروا وأشركوا بالله حين ردوا شرع الله سبحانه وتعالى، وما ذكر الله عز وجل عنهم في كتابه أنهم عبدوا أوثاناً، وما ذكر سبحانه وتعالى أنهم اتخذوا أصناماً، وإنما ذكر عز وجل عنهم هذه الفاحشة، ومع ذلك فهم بإجماع أهل الإسلام كفار مخلدون في النار، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وما ذكر الله عز وجل إلا إباءهم وردهم لما جاءهم به لوط عليه السلام، واستهزاءهم به عليه السلام، وما حاولوا معه من أنواع المنكر والعياذ بالله، وعدم استجابتهم لدعوته، فهكذا تكون الذنوب والمعاصي سبباً وبريداً يوصل الإنسان إلى الإباء وإلى نقض أصل الإسلام والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فالعبد يبدأ بشهوة وتتبعها شبهة وعقيدة فاسدة، يتبع ذلك كله إباء ورد لشرع الله عز وجل، وأنت ترى العالم إلا من رحم الله من أهل الإسلام عبيد شهواتهم. ......

عبودية الشهوات وعواقبها


لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبودية الشهوات كما بينها الله عز وجل في كتابه، قال سبحانه وتعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)[الجاثية:23] ، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يختم ويطبع على قلب من اتبع هواه: ((مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ))، وهو الذي كلما هوى شيئاً ركبه، فاتباع الهوى مردٍ ومهلك يقود الإنسان إلى الشرك بعد أن فعل المعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) ، فهذه عبودية منها ما يكون شركاً أكبر كما هو ظاهر الحديث، وذلك حين يستعد أن يبيع دينه بالدرهم والدينار، ويبيع دينه بالقطيفة والخميصة، يبيعه بعرض من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فكثير من الناس يبيع دينه وهو مستعد لذلك نتيجة استجابته للشهوات حين تتحكم فيه تحكماً تاماً، فتكون عبوديته للدرهم والدينار والقطيفة والخميصة شركاً أكبر والعياذ بالله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم من أهل الرياء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فهذه الآيات توضح أن هناك عبودية كاملة للدنيا بمعناها التام، عبودية الدرهم والدينار؛ لأنه قال: (( لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ )). والمسلمون الذين بقي معهم أصل الإيمان والإسلام لهم بعد دخول النار إن دخلوها الجنة، وأما من ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يكونون إلا الكفار، فهذه الإرادة إرادة الدنيا وزينتها قال تعالى: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ))، وهذا الأمر الذي أخبر الله به مقيد بمشيئته، قال عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فهم لا يأخذون كل ما يشتهون ولا ينالون كل ما يريدون، وإنما ما كتب الله لهم من الدنيا مع نغصها وكدرها وشقائها وألمها، فإنها لا بد أن تنال كل من كان على ظهر الأرض بشيء من الشقاء قدراً من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، فلا سعادة كاملة على وجه الأرض، لا بد من نوع من الألم، ولا بد من نوع من التعب، وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي في الجنة بإذن الله، وفي الدنيا منها بالقرب من الله عز وجل، وذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالرضا به رباً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالشعور بالشوق إلى الله عز وجل ومحبته، فهذه ينالها أهل الإيمان من نعيم أهل الجنة الذي نالوه بقربهم، ومرضاة الرب سبحانه وتعالى عنهم لقربهم منه. إذاً: هناك عبودية للدنيا وهي اليوم منتشرة انتشاراً خطيراً وعنيفاً، بل يروج لها في المشارق والمغارب، بل هذه عمدة حضارة الغرب، بل سفالته وانحطاطه، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، ولا يعملون إلا من أجلها، ولو أقروا بوجود الله وبوجود الأنبياء أو بالكتب فهم يقرون في حياتهم قولاً وفعلاً بأنهم لا دخل لهم بالشرائع التي جاءت بها الأنبياء، ولا دخل لهم بما أمرت به الرسل، وإنما حياتهم ينظمونها كما يريدون؛ تحقيقاً لمصالحهم الوهمية التي توهموا سعادتهم فيها، وإنما قيمهم قيم المادة فقط، وقيم الحياة فقط والرفاهية فيها، ولا يعملون ولا يسعون إلى آخرة، ولا إلى إقامة شريعة ما جاءت بها الرسل، وإلا فأخبرونا: هل أمر المسيح بهذا السلوك الذي عليه الغرب والذي عليه أكثر الأمم؟! وهل أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالظلم والعدوان والقتل والطغيان الذي عليه اليهود؟! وهل أمر كل منهما أو غيرهما من أنبياء الله بالشرك بالله ودعاء غير الله وقبول تشبيه غيره به سبحانه وتعالى؟! وهذه أمم الأرض كلها إلا من منّ الله عليه بدين الإسلام، الحق تقبل شريعة غير شريعة الله وترتضيها، وتقاتل من أجلها، وتسعى إلى فرضها، والحقيقة أنها نابعة من عدم الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، فهم لا ينفعهم الإقرار بوجود الله ولا بوجود الرسل، فإن الإقرار بوجود الله إنما يكون إيماناً مع عبادته، وإنما يكون الإقرار بوجود الرسل وصدقهم مع متابعتهم فيما جاءوا به، وكلهم قد جاءوا بوجوب متابعة بعضهم بعضاً، وبوجوب متابعة وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم: الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]. فلا يكون إسلام إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) متفق على صحته، وهذا أمر لا يختلف فيه أهل الإسلام والإيمان، في أنه لا يقبل صرف ولا عدل ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن أبى متابعته ورضي بدين غير ما جاء به من دين الإسلام. ولذلك نقول: إن هذه العبودية للشهوات ربما كانت تامة، وربما كانت جزئية إذا باع جزءاً من دينه بالدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، فهذا يكون شركاً أصغر، وإذا باع شيئاً من الدين ولم يبع أصله، إذا ضحى بالطاعة ولكنه لم يضح بالتوحيد، ولكنه على شفا الشرك، اقترب منه وحاذاه نسأل الله العافية، وتوشك قدمه أن تنزلق. وقد ذكرنا أن خطر سوء الخاتمة هو أعظم ما يخاف على المبتدع وعلى المصر على الكبائر والمعاصي عموماً، فإن ذلك من أخطر ما يهدده، وإنما المؤمن الكامل الإيمان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فكيف بالعاصي؟! وإذا كان المؤمن يسأل الله أن يتوفاه مسلماً حذراً من سوء الخاتمة فكيف بمن يلاقي ربه عز وجل كل يوم بأنواع المحادة والمخالفة لشرعه سبحانه وتعالى؟! فنقص الإسلام يقرب الإنسان من الكفر والعياذ بالله، هذا هو خطر المعاصي الأشد على الإنسان، وإلا فمن وافى الله موحداً فله يوم يخرج فيه من النار أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه وإن كانت -كما ذكرنا غمسة- في النار أشد من كل عذاب في الدنيا، وغمسة في النار تنسي الإنسان نعيمه في الدنيا بأسرها لو كانت له. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من النار، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ......

الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية


الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. إن العبد بحاجة إلى أن يؤكد معنى الاستسلام لله سبحانه وتعالى في نفسه كل يوم مرات ومرات، كما أمر الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] تسلم لله سبحانه وتعالى، فحاجتك إلى ذلك مثل حاجتك إلى الطعام والشراب، وحاجتك إلى أن تجدد هذا المعنى في نفسك حاجة شديدة؛ لأن الإنسان تأخذه شهوات الدنيا بعيداً عن القضية الأولى في حياته، وهي أن يسلم الله وينقاد له. ومعنى ثان من معاني الإسلام في قول المؤمن متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام: (أسلمت لرب العالمين) (اللهم لك أسلمت) فهذا معنى الاستسلام لأوامره الكونية القدرية التي لا يقدر على دفعها، فهو يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلم ما قدر الله سبحانه وتعالى عليه مما لا دخل له به. وما يقدره الله عز وجل على الإنسان فمنه ما يكون له تعلق من خلال قدرته وإرادته، فهو الذي أقدره عليها، وهو الذي جعل له مشيئة فيها، وهذه لا بد أن يمتثل فيها شرع الله ناظراً إلى إعانته وتوفيقه ومستعيناً به سبحانه وتعالى، مستحضراً أن لا قوة إلا به، كما قال سبحانه وتعالى معلماً عباده أن يقولوا في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فهو يعبد الله، وهذا معنى الاستسلام لأمره الشرعي سبحانه وتعالى: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) يستحضر فيه العبد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا بإعانة الله، وإلا بتوفيقه عز وجل، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. فهذا المعنى لا بد أن يكون مستحضراً، وذلك أن ما يتعلق بقدرة الإنسان وإرادته فالله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ضمن هذه الأشياء ما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم، فهو سبحانه وتعالى الذي يشاء، ولا يشاء العباد إلا أن يشاء كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] ، وهنا تدفع القدر بالقدر، تدفع قدر المعصية بقدر التوبة، وتدفع قدر المخالفة بقدر الموافقة، تفر من قدر الله إلى قدر الله، وتدفع قدر الله بقدر الله مستعيناً به سبحانه وتعالى على طاعته فاراً من معصيته، قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، تفر إلى الله منه، وتتعوذ بالله منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فالعبد يستعيذ بالله منه؛ لأنه يستحضر أن أمر الله سبحانه وتعالى الكوني نافذ فيه، ولن يوفق لطاعة الله وترك مخالفته إلا بإعانته عز وجل.......


الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار


وهناك من أوامر الله القدرية الكونية التي تقع في العباد بغير إرادة منهم، ولكن لهم قدرة على أخذ أسباب يسرها الله عز وجل لهم، كما أن قدر الجوع يقع في أنفسهم من غير إرادة منهم، وكذا قدر العطش، وكذا قدر المرض، وهكذا أقدار كثيرة تقع فيهم، ولكن يسر الله لهم أسباباً لدفعها، والخلق مجبولون مفطورون على أن يأخذوا بالأسباب، فلا يجد أحد منهم جوعاً في نفسه إلا بحث عن الطعام، ولا عطشاً إلا بحث عن الشراب، وكذلك في المرض وغير ذلك يبحث الإنسان عن أسباب نجاته، فطروا على ذلك، فلو أن إنساناً لمس مثلاً شيئاً ساخناً لوجد يده تبتعد تلقائياً؛ وذلك لأنه مجبول مفطور على الحرص على الحياة، والحرص على أسباب النجاة والبعد عن أسباب الخطر، ولا تجد عاقلاً إلا يفعل ذلك. وهذه الأسباب منها المشروع ومنها غير المشروع، فهذا تفعل فيه ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد قدر الأسباب والأرزاق، وهو سبحانه وتعالى أمرك بأن تكسب الحلال وتترك الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، خذوا ما أحل، ودعوا ما حرم، فأنت مأمور بأن تأخذ بالأسباب، لكن تأخذ ما أحل وتترك ما حرم، فتطلب طلباً جميلاً. وهذا أمر غاية في الأهمية فيما يتعلق بحياة الإنسان، وذلك أن الأسباب أصبحت طاغية على أكثر البشر، وأصبح الأخذ بها عنوان اعتقادهم لا يبالون بأي سبب كان من حلال أو حرام، ما لاح لهم أخذوه، ويقولون: نأخذ بالأسباب! وهذا في الحقيقة دليل على ضعف اليقين أو انعدامه، وضعف التوكل على الله عز وجل أو انعدامه، فإنما تأخذ ما أحل الله لك، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وتترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وهو عز وجل قد أذن للمضطر فيما حرم عليه في ظروف الاضطرار، وليس عندما يشتهي أو مجرد الحاجة وإنما: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وليست الضرورة هي التي يتصورها الناس أن كل ما يشتهون ضرورة، فقد أصبحت كماليات الحياة عند الناس ضرورة، وإنما الضرورة ما ذكر الله تعالى في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، وهذه المخمصة هي الجوع الشديد، وهي التي يخشى منها الهلاك، فما يهلك الإنسان وما يفوت عليه حياته ومصالحه هو المعتبر، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست تبيح ما حرم الله سبحانه وتعالى على العباد، وأكثر الناس عندهم تحسيناتهم ضرورة، فحاجته إلى التجارة مثلاً أصبحت ضرورة، وحاجته إلى كماليات المنزل أصبحت ضرورة تبيح له الربا والرشوة والغش والخداع والسرقة، والعياذ بالله من ذلك! وذلك كله من الوهم الذي يخدعهم به الشيطان، فإنما الضرورات: ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة العرض، وضرورة العقل، وضرورة المال، إذا كان يزول بالكلية شيء من ذلك بحيث تتعسر حياة الإنسان فهي الضرورة، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست بالضرورات التي تبيح المحظورات. بقي قسم ثالث من أقسام الأحكام الكونية القدرية: وهو القسم الذي لا يقدر العباد على دفعه، من مرض لا علاج له، أو من موت قريب أو حبيب، أو أمر يجري على الإنسان رغماً عنه، أو قد أخذ بالأسباب فما أنتجت، فكم من إنسان يأخذ بالأسباب ولا تحصل النتائج المرجوة التي يريدها، فعند ذلك لا بد من الاستسلام، فإذا قلت: (اللهم لك أسلمت) فأنت تستسلم لهذا النوع من الأحكام دون سخط وجزع، ودون اعتراض على أمر الله سبحانه وتعالى، فتسلم نفسك لله عز وجل، وتفوض أمرك إليه، وترضى بما قسم، ولا تختر خلاف ما اختار سبحانه وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، هو الذي يصطفي من شاء، ويختص من شاء برحمته، وهو سبحانه يبتلي من شاء بعدله، وهو سبحانه يفعل ما يشاء في ملكه، قال تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] كما قيل لـأبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، وقد علم أنه ميت، قالوا: نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب رآني، فظنوا أنه يقصد الطبيب المعلوم، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، لا يملك العباد إلا أن يخضعوا لأمره عز وجل، فإن خضعت له وأنت راض بقضائه وقسمه قد استسلمت له دون منازعة ومخاصمة له سبحانه وتعالى، فأنت يجري عليك القدر، وأنت مرضي عنك، وأنت مثاب، وأنت مجزي بالإحسان إحساناً، وإذا أبيت إلا المعاندة والمخاصمة والسخط والجزع فسوف يجري عليك القدر، وأنت مذموم معاقب مستحق للعقاب في الدنيا والآخرة، تجلب لنفسك أنواع البلايا بالإضافة إلى البلية التي أنت فيها، فلا تجزع ولا تسخط، وارض بما قسم الله عز وجل لك، واصبر على ما أصابك، فإن هذا هو الذي شرعه الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، ونقول متابعين له: اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت إلهنا لا إله إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار! ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك طائعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين!





)[آل عمران:19] . وقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). وقال في دعاء استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ولحاجة الإنسان أن يتذكر هذا المعنى دائماً -معنى أن يسلم لله عز وجل- كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول المسلمين يكرره في أدعيته المختلفة، وهذا امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]. وأنت أيها المسلم! حين تقول: اللهم لك أسلمت، تتذكر أولاً نعمة الله عز وجل عليك بهذا الدين، فأنت أسلمت فقد دخلت في الإسلام، وأنعم الله عز وجل عليك بشهادة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فأنت أسلمت قلبك ونفسك لله عز وجل، وهذا إسلام القلب والوجه لله، بأن يجعله خالصاً في توجهه وتألهه وعبادته لله سبحانه وتعالى، وهذا أصل معنى الدين، قال عز وجل: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ )[لقمان:22-23]، فليس ثم إلا مسلم وكافر، فمن أسلم وجهه -أي: وجهته وتوجهه وإرادته ونيته لله عز وجل فهو الذي استمسك بلا إله إلا الله، وهي العروة الوثقى، ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان:23]. إذاً: ليس هناك إلا دين الإسلام الذي يقبله الله عز وجل، أن يسلم الإنسان وجهته وعبادته لله وحده لا شريك له، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا الناس إلى هذه الكلمة مجدداً دعوة الأنبياء جميعاً، فإنهم دعوا إلى هذه الكلمة كلهم، قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهذا من أعظم ما يدل عليه ما جاءت به الرسل جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم بدءوا بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى عن أنبيائه جميعاً: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. ومن أحسن ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل أن قال: (اللهم لك أسلمت) بعد قوله: (والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق)، فإن الشهادة بأنهم حق شهادة بأنهم جاءوا بدعوة التوحيد الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد خلافه، بل من أشرك بالله حبط عمله، قال عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]. وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] ، وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فالضلال والافتراء العظيم البين في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو ينافي أصل دين الإسلام، فحين تقول: اللهم لك أسلمت، تسلم وجهك وقلبك كما قال عز وجل مادحاً إبراهيم عليه السلام: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] ، أي: قد سلم قلبه لله، فصار لله عز وجل توجه هذا القلب، وإراداته ورغبته، وقال إبراهيم عليه السلام في دعائه: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، أي بمعنى: بقلب قد سلم لله عز وجل، فالمسلم هو الذي أسلم لله سبحانه وتعالى. ......


معنى الاستسلام لله تعالى


الإسلام يحمل معنى الخضوع والانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، كما قال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36] ، وهذا الضلال في ترك الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل مناف لدين الإسلام، نعوذ بالله من ذلك. إن معنى (اللهم لك أسلمت) يقتضي استسلاماً وانقياداً وخضوعاً وذلاً ومتابعة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولذا كان من أبى أن يقبل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى كان راداً لأوامر الله، متكبراً على شرع الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك مناقضة للإسلام، ولذا نجد أن العبد المؤمن يرى نفسه مملوكاً لله سبحانه وتعالى، تحت شرعه وأمره، له سبحانه وتعالى عليه الأمر كما له الخلق، كما أنه تفرد بالخلق فله سبحانه وتعالى عليه الأمر: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] . والدعوات الباطلة التي تنادي بأن الإنسان حر في أن يأتي ما يشتهي، ويترك ما يشتهي، ويفعل ما يريد، ويترك ما يريد دون التزام بالشرع، حتى لو أقر بوجود الله، هذه الدعوة منافية لأصل التوحيد والإيمان، لا يقبل الله عز وجل من العباد إلا أن يسلموا له سبحانه وتعالى، ويستسلموا لأوامره الشرعية، ولا يقابلوها بشبهات ولا بشهوات، ولا يعارضوها بتقليد أعمى أو بمصلحة أو سياسة أو غير ذلك، إنما الأمر أن يقبل الإنسان شرع الله سبحانه وتعالى كاملاً، ورفضه لأي أمر من أوامر الله إباءً واستكباراً قدح في أصل الدين، وما كان كفر إبليس إلا بترك هذا الاستسلام، فقد أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولا تنفعه طاعاته السابقة كما لم تنفع إبليس عبادته قبل ذلك؛ لأنه إذا رد أمر الله عز وجل في أمر واحد فقد نفض يديه من معنى العبودية، ولا يبقى للإسلام معنى، ولا يبقى للدين معنى مع انتقاض معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، ولذا كانت دعوة أهل الإسلام دائماً إلى الانقياد لله سبحانه وتعالى، وتوجيه القلوب إلى وجهة واحدة.. إلى مرضاة الله عز وجل. وأما من قبل أمر الله ولكنه خالف وعصى، وهو مقر على نفسه بالذنب والمعصية، وهو يقر أنه مستحق للعقاب لمخالفته أمر الله عز وجل، فهذا نقص إسلامه وإيمانه ولم ينتف بالكلية؛ وذلك لأن أصل معنى الإسلام من الانقياد والقبول بشرع الله موجود في قلبه، وأما الكفر والردة عن الدين فبالإباء أو الاستكبار بترك القبول والانقياد القلبي الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد سواه.


أعلى الصفحة


الفرق بين الشرك وما دونه


لقد بين سبحانه وتعالى الفرق بين الشرك وبين ما دونه في قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، فبين بذلك أن العبد ربما تقع منه الذنوب، وربما وقعت منه أيضاً الكبائر كما دلت عليه الآية الكريمة، فإنها قسمت المخالفة لما أمر الله عز وجل به إلى شرك وإلى ما دون ذلك، فلا بد من أن نفرق بينهما كذلك، فإن الله لا يغفر لمن أشرك به بعد قيام الحجة، أي: لمن لقي الله مشركاً وقد بلغته دعوة الرسل بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فكذبها أو أبى أن يقبلها، وكلاهما ناقض لما فطر عليه الإنسان من التوحيد، وما شرع الله عز وجل لجميع الرسل من الإسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى. فإن الإباء والاستكبار غالباً متلازمان، نعوذ بالله من الكفر والنفاق، والله سبحانه وتعالى بين أنه يغفر ما دون الشرك ويشمل ذلك الكبائر والصغائر لمن شاء، وإن كان العاصي في خطر هذه المشيئة، فإنه قد دلت الأدلة القطعية على أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار فيبقى فيها مدة يحترق فيها، حتى إذا صاروا فحماً أذن لهم بالشفاعة، فأتي بهم ضبائر ضبائر - أي: جماعات جماعات- فيلقون في نهر الحياة -نهر من أنهار الجنة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يأذن الله عز وجل لهم في دخول الجنة، ولا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود لموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك نقول: إن من يعصي الله سبحانه وتعالى في خطر عظيم، فإن غمسة في النار تعدل كل نعيم الدنيا، بل تزيله بالكلية، فإنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط. وما أكثر من يستهين بلحظات البقاء في النار! بل يقول: لا بد أن ندخلها ونحترق فيها أياماً، وهذا والعياذ بالله من التهاون بخطرها! وهذا من أسباب النفاق، وربما أدى بالعبد إلى الكفر، وهذا هو الخطر الأشد للمعاصي والكبائر والبدع خصوصاً، وذلك أنها من أسباب سوء الخاتمة، وإنما قلنا: إنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، ولا بد أن يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ولكن ما أدراك أيها العاصي المصر على معصيتك أنك تلقى الله عز وجل بهذه الكلمة؟! ألا تخشى أن يحبط الله عز وجل عملك وقولك بسبب الذنوب ويختم لك بخاتمة السوء؟! فإن المعاصي بريد الكفر، وسميت كثير من المعاصي كفراً لأنها تودي وتقود إليه، وما أكثر من يستهين بالمعاصي، ثم يستهين بالإيمان كله! وربما قاده فعل المعاصي والمداومة عليها إلى أن يستحلها أو أن يأبى شرع الله فيها، فإن الإنسان لا يتحمل طويلاً ذلك الصراع الذي في نفسه بين داعي الإيمان وبين دواعي الكفر والشيطان، إنه يتحدث في نفسه أنه مخطئ مذنب، وأنه يستحق العقاب، فهذا داعي الإيمان يذكره بالتوبة إلى الله، وداعي الشيطان يرغبه في دنياه، ويرغبه في مزيد من الشهوات المحرمة، وأن ينال منها حتى ولو كان على حساب آخرته. فهذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان لا بد أن يحسم، ولا بد أن ينتهي إلى صالح أحد الطرفين، أما أن يضل على حاله فغالباً ما لا يستمر طويلاً، فإن الأمر قد يبدأ برغبة وشهوة، لكنه قد يصل إلى أمر الإباء والعياذ بالله، فهؤلاء قوم لوط بدأ أمرهم بالشهوة المحرمة -شهوة فعل الفاحشة وإتيان الذكور في مجالسهم- ولكن آل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن ردوا ما جاء به رسولهم لوط عليه السلام، فكفروا وأشركوا بالله حين ردوا شرع الله سبحانه وتعالى، وما ذكر الله عز وجل عنهم في كتابه أنهم عبدوا أوثاناً، وما ذكر سبحانه وتعالى أنهم اتخذوا أصناماً، وإنما ذكر عز وجل عنهم هذه الفاحشة، ومع ذلك فهم بإجماع أهل الإسلام كفار مخلدون في النار، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وما ذكر الله عز وجل إلا إباءهم وردهم لما جاءهم به لوط عليه السلام، واستهزاءهم به عليه السلام، وما حاولوا معه من أنواع المنكر والعياذ بالله، وعدم استجابتهم لدعوته، فهكذا تكون الذنوب والمعاصي سبباً وبريداً يوصل الإنسان إلى الإباء وإلى نقض أصل الإسلام والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فالعبد يبدأ بشهوة وتتبعها شبهة وعقيدة فاسدة، يتبع ذلك كله إباء ورد لشرع الله عز وجل، وأنت ترى العالم إلا من رحم الله من أهل الإسلام عبيد شهواتهم. ......

عبودية الشهوات وعواقبها


لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبودية الشهوات كما بينها الله عز وجل في كتابه، قال سبحانه وتعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)[الجاثية:23] ، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يختم ويطبع على قلب من اتبع هواه: ((مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ))، وهو الذي كلما هوى شيئاً ركبه، فاتباع الهوى مردٍ ومهلك يقود الإنسان إلى الشرك بعد أن فعل المعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) ، فهذه عبودية منها ما يكون شركاً أكبر كما هو ظاهر الحديث، وذلك حين يستعد أن يبيع دينه بالدرهم والدينار، ويبيع دينه بالقطيفة والخميصة، يبيعه بعرض من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فكثير من الناس يبيع دينه وهو مستعد لذلك نتيجة استجابته للشهوات حين تتحكم فيه تحكماً تاماً، فتكون عبوديته للدرهم والدينار والقطيفة والخميصة شركاً أكبر والعياذ بالله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم من أهل الرياء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فهذه الآيات توضح أن هناك عبودية كاملة للدنيا بمعناها التام، عبودية الدرهم والدينار؛ لأنه قال: (( لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ )). والمسلمون الذين بقي معهم أصل الإيمان والإسلام لهم بعد دخول النار إن دخلوها الجنة، وأما من ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يكونون إلا الكفار، فهذه الإرادة إرادة الدنيا وزينتها قال تعالى: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ))، وهذا الأمر الذي أخبر الله به مقيد بمشيئته، قال عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فهم لا يأخذون كل ما يشتهون ولا ينالون كل ما يريدون، وإنما ما كتب الله لهم من الدنيا مع نغصها وكدرها وشقائها وألمها، فإنها لا بد أن تنال كل من كان على ظهر الأرض بشيء من الشقاء قدراً من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، فلا سعادة كاملة على وجه الأرض، لا بد من نوع من الألم، ولا بد من نوع من التعب، وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي في الجنة بإذن الله، وفي الدنيا منها بالقرب من الله عز وجل، وذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالرضا به رباً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالشعور بالشوق إلى الله عز وجل ومحبته، فهذه ينالها أهل الإيمان من نعيم أهل الجنة الذي نالوه بقربهم، ومرضاة الرب سبحانه وتعالى عنهم لقربهم منه. إذاً: هناك عبودية للدنيا وهي اليوم منتشرة انتشاراً خطيراً وعنيفاً، بل يروج لها في المشارق والمغارب، بل هذه عمدة حضارة الغرب، بل سفالته وانحطاطه، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، ولا يعملون إلا من أجلها، ولو أقروا بوجود الله وبوجود الأنبياء أو بالكتب فهم يقرون في حياتهم قولاً وفعلاً بأنهم لا دخل لهم بالشرائع التي جاءت بها الأنبياء، ولا دخل لهم بما أمرت به الرسل، وإنما حياتهم ينظمونها كما يريدون؛ تحقيقاً لمصالحهم الوهمية التي توهموا سعادتهم فيها، وإنما قيمهم قيم المادة فقط، وقيم الحياة فقط والرفاهية فيها، ولا يعملون ولا يسعون إلى آخرة، ولا إلى إقامة شريعة ما جاءت بها الرسل، وإلا فأخبرونا: هل أمر المسيح بهذا السلوك الذي عليه الغرب والذي عليه أكثر الأمم؟! وهل أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالظلم والعدوان والقتل والطغيان الذي عليه اليهود؟! وهل أمر كل منهما أو غيرهما من أنبياء الله بالشرك بالله ودعاء غير الله وقبول تشبيه غيره به سبحانه وتعالى؟! وهذه أمم الأرض كلها إلا من منّ الله عليه بدين الإسلام، الحق تقبل شريعة غير شريعة الله وترتضيها، وتقاتل من أجلها، وتسعى إلى فرضها، والحقيقة أنها نابعة من عدم الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، فهم لا ينفعهم الإقرار بوجود الله ولا بوجود الرسل، فإن الإقرار بوجود الله إنما يكون إيماناً مع عبادته، وإنما يكون الإقرار بوجود الرسل وصدقهم مع متابعتهم فيما جاءوا به، وكلهم قد جاءوا بوجوب متابعة بعضهم بعضاً، وبوجوب متابعة وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم: الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]. فلا يكون إسلام إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) متفق على صحته، وهذا أمر لا يختلف فيه أهل الإسلام والإيمان، في أنه لا يقبل صرف ولا عدل ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن أبى متابعته ورضي بدين غير ما جاء به من دين الإسلام. ولذلك نقول: إن هذه العبودية للشهوات ربما كانت تامة، وربما كانت جزئية إذا باع جزءاً من دينه بالدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، فهذا يكون شركاً أصغر، وإذا باع شيئاً من الدين ولم يبع أصله، إذا ضحى بالطاعة ولكنه لم يضح بالتوحيد، ولكنه على شفا الشرك، اقترب منه وحاذاه نسأل الله العافية، وتوشك قدمه أن تنزلق. وقد ذكرنا أن خطر سوء الخاتمة هو أعظم ما يخاف على المبتدع وعلى المصر على الكبائر والمعاصي عموماً، فإن ذلك من أخطر ما يهدده، وإنما المؤمن الكامل الإيمان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فكيف بالعاصي؟! وإذا كان المؤمن يسأل الله أن يتوفاه مسلماً حذراً من سوء الخاتمة فكيف بمن يلاقي ربه عز وجل كل يوم بأنواع المحادة والمخالفة لشرعه سبحانه وتعالى؟! فنقص الإسلام يقرب الإنسان من الكفر والعياذ بالله، هذا هو خطر المعاصي الأشد على الإنسان، وإلا فمن وافى الله موحداً فله يوم يخرج فيه من النار أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه وإن كانت -كما ذكرنا غمسة- في النار أشد من كل عذاب في الدنيا، وغمسة في النار تنسي الإنسان نعيمه في الدنيا بأسرها لو كانت له. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من النار، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ......

الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية


الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. إن العبد بحاجة إلى أن يؤكد معنى الاستسلام لله سبحانه وتعالى في نفسه كل يوم مرات ومرات، كما أمر الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] تسلم لله سبحانه وتعالى، فحاجتك إلى ذلك مثل حاجتك إلى الطعام والشراب، وحاجتك إلى أن تجدد هذا المعنى في نفسك حاجة شديدة؛ لأن الإنسان تأخذه شهوات الدنيا بعيداً عن القضية الأولى في حياته، وهي أن يسلم الله وينقاد له. ومعنى ثان من معاني الإسلام في قول المؤمن متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام: (أسلمت لرب العالمين) (اللهم لك أسلمت) فهذا معنى الاستسلام لأوامره الكونية القدرية التي لا يقدر على دفعها، فهو يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلم ما قدر الله سبحانه وتعالى عليه مما لا دخل له به. وما يقدره الله عز وجل على الإنسان فمنه ما يكون له تعلق من خلال قدرته وإرادته، فهو الذي أقدره عليها، وهو الذي جعل له مشيئة فيها، وهذه لا بد أن يمتثل فيها شرع الله ناظراً إلى إعانته وتوفيقه ومستعيناً به سبحانه وتعالى، مستحضراً أن لا قوة إلا به، كما قال سبحانه وتعالى معلماً عباده أن يقولوا في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فهو يعبد الله، وهذا معنى الاستسلام لأمره الشرعي سبحانه وتعالى: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) يستحضر فيه العبد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا بإعانة الله، وإلا بتوفيقه عز وجل، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. فهذا المعنى لا بد أن يكون مستحضراً، وذلك أن ما يتعلق بقدرة الإنسان وإرادته فالله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ضمن هذه الأشياء ما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم، فهو سبحانه وتعالى الذي يشاء، ولا يشاء العباد إلا أن يشاء كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] ، وهنا تدفع القدر بالقدر، تدفع قدر المعصية بقدر التوبة، وتدفع قدر المخالفة بقدر الموافقة، تفر من قدر الله إلى قدر الله، وتدفع قدر الله بقدر الله مستعيناً به سبحانه وتعالى على طاعته فاراً من معصيته، قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، تفر إلى الله منه، وتتعوذ بالله منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فالعبد يستعيذ بالله منه؛ لأنه يستحضر أن أمر الله سبحانه وتعالى الكوني نافذ فيه، ولن يوفق لطاعة الله وترك مخالفته إلا بإعانته عز وجل.......


الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار


وهناك من أوامر الله القدرية الكونية التي تقع في العباد بغير إرادة منهم، ولكن لهم قدرة على أخذ أسباب يسرها الله عز وجل لهم، كما أن قدر الجوع يقع في أنفسهم من غير إرادة منهم، وكذا قدر العطش، وكذا قدر المرض، وهكذا أقدار كثيرة تقع فيهم، ولكن يسر الله لهم أسباباً لدفعها، والخلق مجبولون مفطورون على أن يأخذوا بالأسباب، فلا يجد أحد منهم جوعاً في نفسه إلا بحث عن الطعام، ولا عطشاً إلا بحث عن الشراب، وكذلك في المرض وغير ذلك يبحث الإنسان عن أسباب نجاته، فطروا على ذلك، فلو أن إنساناً لمس مثلاً شيئاً ساخناً لوجد يده تبتعد تلقائياً؛ وذلك لأنه مجبول مفطور على الحرص على الحياة، والحرص على أسباب النجاة والبعد عن أسباب الخطر، ولا تجد عاقلاً إلا يفعل ذلك. وهذه الأسباب منها المشروع ومنها غير المشروع، فهذا تفعل فيه ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد قدر الأسباب والأرزاق، وهو سبحانه وتعالى أمرك بأن تكسب الحلال وتترك الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، خذوا ما أحل، ودعوا ما حرم، فأنت مأمور بأن تأخذ بالأسباب، لكن تأخذ ما أحل وتترك ما حرم، فتطلب طلباً جميلاً. وهذا أمر غاية في الأهمية فيما يتعلق بحياة الإنسان، وذلك أن الأسباب أصبحت طاغية على أكثر البشر، وأصبح الأخذ بها عنوان اعتقادهم لا يبالون بأي سبب كان من حلال أو حرام، ما لاح لهم أخذوه، ويقولون: نأخذ بالأسباب! وهذا في الحقيقة دليل على ضعف اليقين أو انعدامه، وضعف التوكل على الله عز وجل أو انعدامه، فإنما تأخذ ما أحل الله لك، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وتترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وهو عز وجل قد أذن للمضطر فيما حرم عليه في ظروف الاضطرار، وليس عندما يشتهي أو مجرد الحاجة وإنما: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وليست الضرورة هي التي يتصورها الناس أن كل ما يشتهون ضرورة، فقد أصبحت كماليات الحياة عند الناس ضرورة، وإنما الضرورة ما ذكر الله تعالى في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، وهذه المخمصة هي الجوع الشديد، وهي التي يخشى منها الهلاك، فما يهلك الإنسان وما يفوت عليه حياته ومصالحه هو المعتبر، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست تبيح ما حرم الله سبحانه وتعالى على العباد، وأكثر الناس عندهم تحسيناتهم ضرورة، فحاجته إلى التجارة مثلاً أصبحت ضرورة، وحاجته إلى كماليات المنزل أصبحت ضرورة تبيح له الربا والرشوة والغش والخداع والسرقة، والعياذ بالله من ذلك! وذلك كله من الوهم الذي يخدعهم به الشيطان، فإنما الضرورات: ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة العرض، وضرورة العقل، وضرورة المال، إذا كان يزول بالكلية شيء من ذلك بحيث تتعسر حياة الإنسان فهي الضرورة، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست بالضرورات التي تبيح المحظورات. بقي قسم ثالث من أقسام الأحكام الكونية القدرية: وهو القسم الذي لا يقدر العباد على دفعه، من مرض لا علاج له، أو من موت قريب أو حبيب، أو أمر يجري على الإنسان رغماً عنه، أو قد أخذ بالأسباب فما أنتجت، فكم من إنسان يأخذ بالأسباب ولا تحصل النتائج المرجوة التي يريدها، فعند ذلك لا بد من الاستسلام، فإذا قلت: (اللهم لك أسلمت) فأنت تستسلم لهذا النوع من الأحكام دون سخط وجزع، ودون اعتراض على أمر الله سبحانه وتعالى، فتسلم نفسك لله عز وجل، وتفوض أمرك إليه، وترضى بما قسم، ولا تختر خلاف ما اختار سبحانه وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، هو الذي يصطفي من شاء، ويختص من شاء برحمته، وهو سبحانه يبتلي من شاء بعدله، وهو سبحانه يفعل ما يشاء في ملكه، قال تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] كما قيل لـأبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، وقد علم أنه ميت، قالوا: نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب رآني، فظنوا أنه يقصد الطبيب المعلوم، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، لا يملك العباد إلا أن يخضعوا لأمره عز وجل، فإن خضعت له وأنت راض بقضائه وقسمه قد استسلمت له دون منازعة ومخاصمة له سبحانه وتعالى، فأنت يجري عليك القدر، وأنت مرضي عنك، وأنت مثاب، وأنت مجزي بالإحسان إحساناً، وإذا أبيت إلا المعاندة والمخاصمة والسخط والجزع فسوف يجري عليك القدر، وأنت مذموم معاقب مستحق للعقاب في الدنيا والآخرة، تجلب لنفسك أنواع البلايا بالإضافة إلى البلية التي أنت فيها، فلا تجزع ولا تسخط، وارض بما قسم الله عز وجل لك، واصبر على ما أصابك، فإن هذا هو الذي شرعه الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، ونقول متابعين له: اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت إلهنا لا إله إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار! ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك طائعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين!








توقيع :

مدونة اخوكم الفقير الى عفو ربه / سمير السكندرى


http://samirelsakndry.maktoobblog.com/

رد مع اقتباس
إضافة رد


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سلسلة شرح سنن ابى داوود للاخ/ سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 0 02-23-2011 07:04 AM
السيرة الذاتية للاخ / سمير السكندرى سمير السكندرى روضة الحوار العام 7 10-16-2010 04:59 PM
إلى مستخدمي الكمبيوتر للاخ / سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 2 06-21-2010 02:12 PM
علو الهمة عند السلف للاخ / سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 0 04-08-2010 06:34 AM
الاستهزاء بالدين...للاخ / سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 2 11-17-2009 03:03 AM

استضافة الحياة

الساعة الآن 02:32 PM.


Powered by vBulletin® v3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , TranZ By Almuhajir
النسخة الفضية
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

SlamDesignzslamDesignzEdited by Riad Al-Ganah Team - جميع الحقوق محفوظة لشبكة رياض الجنة

Privacy Policy Valid XHTML 1.0 Transitional By SlamDesignz Valid CSS Transitional By SlamDesignz