إضافة رد

  #1  
قديم 06-19-2011, 06:28 AM
سمير السكندرى غير متواجد حالياً

شيوخ رياض الجنة
۩۞۩ تعرف على الشيخ سمير السكندري ۩۞۩

 
تاريخ التسجيل: Oct 2009
العمر: 56
المشاركات: 618
افتراضي أنوار الرجاء تبدد ظلمات اليأس للاخ سمبر السكندرى




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والعمل للإسلام، والعمل من أجل نصرة الإسلام طريق مملوء بالآلام والمحن، وكلما ازدادت المحن وكثرت الجراح، وعظمت الآلام؛ ظهر من آثار أنوار الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين ما لم يكن موجوداً قبل ذلك، وإن من العلم بالله سبحانه وتعالى -وهو حقيقة الإيمان أو أصل الإيمان- أن يعلم العبد أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن يعلم سنته سبحانه وتعالى في خلقه، لماذا خلق الله عز وجل الخلق؟ ولماذا أوجد سبحانه وتعالى في الأرض الخير والشر، والإيمان والكفر مع قدرته عز وجل على جعل الناس أمة واحدة على الإيمان لو شاء كما قال تعالى: فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]؟. إن العلم بالله سبحانه وتعالى، وتحقيق الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعرفة سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت في الأولين وتمضي كذلك في الآخرين؛ لهي من أعظم الفوائد التي تحصل للمؤمنين في سيرهم في هذا الطريق عندما تصيبهم الجراح والآلام والمحن، وقد قدر الله سبحانه وتعالى وجود الحياة أصلاً لكي يرى سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين ما يحب. من أجلك أيها المؤمن! من أجل أن تؤمن وترجو وتخاف وتحب وتبذل وتضحي، من أجل أن تعبد الله سبحانه وتعالى أوجد الله عز وجل إبليس والشياطين والكفرة والملحدين والمنافقين، وكان في قدرته عز وجل -ولم يزل- أن يجعل: مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60]، بدلاً من هؤلاء، لكنه سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، وهو سبحانه وتعالى القدير، يحب ظهور عبوديته في وسط أنواع الكفر والضلال، وهذه عبودية خاصة، عبودية تختلف عن عبودية الرخاء، وعن عبودية سائر الكائنات، نعلم أن كل الكائنات تسبح لله عز وجل وتعبده، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وقال عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحديد:1]، وقال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، وغير ذلك من الآيات التي تؤكد عبودية الكائنات كلها. والملائكة تعبد الله عز وجل ليل نهار كما قال تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، ومع أن الله خلق الخلق أصلاً لعبادته فإنه سبحانه وتعالى أوجد النوع الإنساني وكذلك الجن، وخلقهم سبحانه وتعالى لتوجد منهم عبودية أخرى، وهي عبودية الضراء والشدة، عبودية الخوف من الله دون من سواه، والتوكل على الله عز وجل دون من سواه، عبودية الرجاء في وسط أجواء اليأس فيما يبدو للناس، هذه العبودية من أجلها قدر الله ما يكرهه؛ لأن هذه العبودية أحب إليه سبحانه وتعالى مما يكره، ومما لو قدر الله سبحانه وتعالى عدم وجود الكفر والنفاق والظلم والفساد، فيكون الناس كلهم أمة واحدة، ولكن ظهور هذه العبودية التي فيها مقاومة ومنازعة ومجاهدة، وفيها هجرة وبذل وتضحية، وغير ذلك من أنواع العبودية التي تحصل لأهل الإيمان؛ أحب إلى الله مما لو كانوا جميعاً على طاعته، دون أن يكون بعضهم على معصيته، فافهم حكمة العزيز الحكيم الذي له الملك وله الحمد، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد:2]، فهو سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وهو غالب على أمره، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]. وليس لنقص العزة هزم أولياؤه في المعارك، ولا لعجزه -تعالى الله عن ذلك- قتل من قتل من أوليائه ورسله، وجرح من جرح منهم، واستضعفوا في الأرض، ونيل منهم أنواع النيل، وابتلوا وسجنوا وعذبوا، ليس هذا لعجزه عز وجل، فهو العزيز سبحانه وتعالى، وهو القدير، له ملك السماوات والأرض، وهو الذي بيده الموت والحياة، قال تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد:2]، ومع ذلك كله بحكمته سبحانه وتعالى قدر أن يوجد هذا البلاء وهذه المحن التي تجعل من لا يعلم صفات ربه سبحانه وتعالى ييئس ويبتئس، وربما يترك الطريق والالتزام بدين الله عز وجل، أو ربما يترك العمل من أجل نصرة الدين فيأثم من ترك هذه النصرة، ويقول: ماذا نصنع والأمور كلها ضدنا والعالم كله ضدنا؟! نقول: لابد أن تعلم أن الله عز وجل هو العليم الحكيم، وهو العزيز الحكيم، وأن حكمته اقتضت ذلك؛ لأنه يحب أن يرى منك كما رأى قبل ذلك من أنبيائه ما يحب، فانظر هل يرى الله منك ما يحب؟! قال عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، (ولنبلونكم حتى نعلم) قال ابن عباس : حتى نرى، حتى يعلم الله هذه الأمور علماً يحاسب العباد عليه، يعلم الجهاد والصبر من عباده المؤمنين علماً يحاسبهم عليه، ويثيبهم على ما صدر منهم بفضله وتوفيقه وإعانته سبحانه وتعالى. ......

أسباب حصول الرجاء




الإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته


إن تحصيل الرجاء -الذي هو من أجلِّ أنواع العبودية- يكون بثلاثة أمور ذكرها الله عز وجل: الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة سنته سبحانه فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218]، فمن يرجو رحمة الله أولاً؟ المؤمنون، وهذا يظهر جلياً كما سنذكر في مواقف أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد كانوا في غاية الرجاء في لحظات الشدة، وذلك مبني على علمهم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، وباستحضارهم هذه الأسماء والصفات ومعانيها وآثارها في الوجود، فهم يرون مالا يرى الناس من آثار أسماء الله وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى في خلقه، يشهدون ما أشهدهم الله بالوحي المنزل، وما قذف في قلوبهم من أنواع العلم به سبحانه وتعالى، فيشهدون بذلك مالا يشهده الناس. انظر مثلاً إلى ما أمرنا الله أن نشهده، أشهدنا سبحانه وتعالى أنه هو الذي أخرج فرعون وجنده من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، وأشهدنا عز وجل أنه هو الذي أزلف هناك في اليم فرعون وقومه ومن معه، فسبحان الله! والله عز وجل أشهدنا أنه أرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً. والله عز وجل أشهدنا أنه جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون! والله جعلنا نشهد في كتابه بوحيه أن ما يجري من عداوة الشياطين لدعوة الأنبياء إنه هو الذي جعلها قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112]. الله سبحانه وتعالى أشهدنا أنه جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأشهدنا سبحانه وتعالى هدايته لمن شاء له الهداية، وإضلاله لمن شاء له الإضلال. وأشهدنا عز وجل أنه النصير لمن شاء نصره ولو اجتمعت الأرض ومن فيها على هزيمته وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]. فشهود هذه المعاني يجعل العبد يعيش في جو آخر، يعيش في دنيا غير دنيا الناس، الناس لا يشهدون من وراء الأحداث التي تقع إلا مظاهرها الحاضرة أمام أعينهم، ولكن لابد أن ترى ما وراء ذلك وما قبل ذلك وما معه من أوامر الله النازلة، ترى ما قبله من الكتب في اللوح المحفوظ، وما سبق ذلك من علم الله سبحانه وتعالى، وما مضى من إرادته النافذة، وتشهد كما ذكرنا نزول الأوامر من عنده نافذة كما أمر في إحياء هذا وإماتة ذاك؛ لإعزاز هذا وإذلال ذاك، أن تشهد أن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما أن له الملك فله الحمد، له الملك يدبره كيف يريد سبحانه وتعالى، وهو محمود على ذلك، وكم ممن أعطاه الله عز وجل ملكاً عالياً يبتليه بذلك فإذا به يتصرف تصرف السفهاء فلا يحمد على ذلك، وكم من حكيم له حكمة ومعرفة ولكنه لا يملك، لكن الله له كمال الملك والحمد، له الملك وله الحمد، وتفرد بكمال القدرة. هذا الذكر العظيم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) يأخذ قلب العبد إلى آفاق بعيدة عما يرى من حياة الناس من صراعاتهم، وليس أنه يبتعد عن الصراع بل هو في أتون هذا الصراع كما يقولون، هو غير معتزل في حقيقة الأمر، أو مجرد متفرج على الصراع الذي يجري، إنه وسط هذا الصراع بالفعل، ينصر دين الله، ويبذل ويضحي، لكنه يرى دائماً ما وراء أفعال الناس، الناس يتصورون أن أفعالهم هي الموجبة، وأن إرادتهم هي النافذة، وهو يرى وراء ذلك أمراً آخر، وفوقه أمر آخر يرى أوامر الله بكن فيكون، ومشيئته سبحانه وتعالى النافذة، وقدرته الشاملة لأفعال العباد الاضطرارية والاختيارية، ويرى في النهاية العاقبة التي أرادها الله عز وجل لكلا الفريقين، لأهل التقوى والإيمان، ولأهل الكفر والفسوق والعصيان. وهذا إنما يشهده من نظر في التاريخ، ولا نعني بالتاريخ مجرد الحكايات، لكن نعني بالتاريخ سيرة الأمم مع أنبيائها، سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت، إن القرآن قص علينا من مواقف الأنبياء وأفعالهم ومن معاني الإيمان التي شهدوها مالا يوجد في كتاب، ولا يوجد فيما يتلوه الناس من أخبار، وما يتناقلونه من تواريخ، لا نظير لكتاب الله سبحانه وتعالى، يقطع من تذوق حلاوة الإيمان بهذا الكتاب إنه كلام الله الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا شبيه لهذا الكلام أبداً، وخصوصاً إذا قرأ الإنسان غيره من الكتب التي دخلت فيها أيدي الناس مما أصله نزل من السماء من عند الله عز وجل، ولكن دخلت فيها أيديهم بالكتابة والزيادة والنقصان، والتبديل والتحريف، أو فيما خطه الناس من تلقاء أنفسهم من حكايات التواريخ. نقول: إن نظرة في تاريخ الأمم والشعوب، وتاريخ الصراع الذي يجري؛ لهي مما يضيء لأهل الإيمان طريقهم، ويحقق معاني الإيمان في قلوبهم؛ فيحصل لهم نور الرجاء في قلوبهم، كما ذكرنا أن الأمر الأول الذي يحصل الرجاء هو تحقيق الإيمان، وشهود صفات الرب سبحانه وتعالى التي هي موجبة لكمال الملك والحمد، ويشهد أفعال الرب سبحانه وتعالى فيما يقع من هذا الصراع وهذا الوجود، وكما ذكرنا يعيش ببدنه مع الناس ولكنه يعيش بقلبه في جو آخر، كما قال يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، وهل كان أبناؤه كفرة؟ لا، ولكن لم يستحضروا ما يستحضره من أن الله هو الذي يفعل، وهو الذي يدبر، وهو الذي يعطي، وهو الذي يجتبي، وهو الذي يعلم، وهو العليم الحكيم، وهو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يمن بفضله على من يشاء كما من على من سبق، وهو يشهد هذه المعاني، ويعلم من الله عز وجل؛ من عواقب ونهايات الأمور، ومن فعله عز وجل بالناس ما لا يعلمون، ولذا وقفوا على حد التصرفات الظاهرة.



الهجرة في سبيل الله


الأمر الثاني الذي يحصل به الرجاء بعد تحقيق الإيمان: أن يكون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218]، والهجرة بالبدن فرع عن الهجرة بالقلب، بل لا تحصل الهجرة بالبدن إلا بهجرة القلب أولاً، وهجرة القلب إلى الله فرض، وهجرة البدن تختلف باختلاف الأحوال. إن الذي أوجب أن يهاجر المؤمن من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأوجب هجرة المؤمنين من مكة ومن سائر البلاد إلى المدينة، وهكذا الهجرة الباقية إلى يوم القيامة التي لا تنقطع ما دام الجهاد باقياً؛ إنما أوجبها اختلاف المنهج، إنما أوجبها هجرة المؤمن لعادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم وأخلاقهم الفاسدة، وتصوراتهم الرديئة، يهجر كل ذلك وهم لا يوافقونه ولا يقبلون أن يعيش وسطهم بتصورات أخر غير سخافات عقولهم وأباطيل عقائدهم، فهاجر بقلبه من عبودية غير الله إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله وحده، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله وحده، ومن نصرة الباطل والعصبية والجاهلية إلى نصرة دين الله وحده، فهي التي أوجبت المخالفة والمفارقة واختلاف الطريق فاستوجب ذلك الصدام، ودائماً تبدأ بذرة الطائفة المؤمنة ضعيفة في وسط صخور عاتية تحاول قتلها وتحجيمها ومنعها من الظهور، فلابد أن يقع صدام غير متكافئ القوة في الظاهر مع أنه لمن يرى ما وراء الأمور وما وراء ستر العادة والبدايات يعلم أن موازين القوة الحقيقية في صالح أهل الإيمان ولو بدءوا ضعافاً، إنما ابتلاهم الله بأن وضعهم في وسط صفوف العدو لينظر ماذا يفعلون؟ وماذا يبذلون؟ وكيف يهاجرون؟ كما ذكر الله عز وجل: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا [الجن:24]، المؤمنون ليسوا أقل عدداً إلا بالنسبة إلى عدوهم في الأرض، أما بالنسبة لجنود الله فجنود الله أكثر قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فهذه الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، والمسلمون يعدون على أصابع اليد، فهذه الآية: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، في سورة المدثر وهي من أوائل ما نزل قبل أن تنتشر الدعوة، وقبل أن يوجد الأجناد، ولو تأملت الكون كله لأيقنت هذه الحقيقة، كم من عباد لله في السماوات والأرض مسبحون لله؟ الكائنات كلها تسبح الله، أيعجز الله عز وجل أن يأمر الأرض أن تبتلع هؤلاء الكفرة وقد ابتلعت بالفعل من قبلهم؟ أيعجز الله سبحانه وتعالى أن يأمر السماء أن تحصبهم وقد حصبت بالفعل أمثالهم؟ ألم نر الزلازل والصواعق وما ينزل من الأعاصير المدمرة؟! الله لا يعجزه أن يأمر البحار أن تغرق هؤلاء وقد أغرقت قبل ذلك من أغرقت، ولو تأملت السماء أو البحر أو الأرض لوجدت الإنسان فعلاً من أصغر ما يكون، وهذه القنابل الهائلة والأسلحة الفتاكة ماذا تصنع وسط هذه الأرض الهائلة؟ إنها كأعواد الكبريت في وسط مدينة هائلة، كطفل يلعب بعلبة كبريت ماذا يصنع؟ هل يمكن أن يهد الجبال؟ حتى ولو هد الجبال وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46]، فهناك آلاف الملايين من المخلوقات التي هي مستعدة للإطباق عليه وإنهائه في لحظة، وهو يوقن أنه لا يملك منها شيئاً, أيملك أحد من الناس ما في باطن الأرض من القوة الهائلة؟ لو انشقت هذه الأرض ماذا سيقع؟ إن الطاقة الموجودة في باطن الأرض، والطاقة في البحار، والطاقة الموجودة في نجم صغير في الكون أو في شهاب فقط كافية لتدمير أمم بأسرها، بل بتدمير الأرض ومن عليها! الله عز وجل جنده أكثر، ولكن ابتلي العباد لكي يهاجروا في سبيل الله، وقد بدأ الصراع لأجل هذا الاختلاف بين المنهج والمنهج، بين الحق والباطل، فهجر المؤمنون العادات والتقاليد وما وجدوا عليه الآباء والأجداد وما وجدوا عليه المجتمعات المنحرفة، وأرادوا أن يعيشوا بإسلامهم، أرادوا أن يعيشوا بنظام حياة مختلف عن نظام الحياة التي يحياها من يعيشون لبطونهم وفروجهم، ومن يعيشون لكبريائهم وجبروتهم وغرورهم، ومن يعيشون لأجل أمراض إبليسية وأخرى أرضية شهوانية حيوانية، لا يعيشون إلا من أجل ذلك، وأهل الإيمان يريدون أن يستنقذوا العالم من شر هذه الأمراض، وأهل هذه الأمراض يريدون فرض باطلهم على الناس، ويخدعونهم أعظم الخداع، فحصل الصراع، وهو صراع غير متكافئ القوة فيما يبدو للناس، أهل الباطل أقوى والحقيقة العكس تماماً، لكن هذا ابتلاء لأهل الإيمان لينظر الله كيف يعملون، فبدأت الهجرة البدنية فكانت أثراً من آثار هجرة القلب أولاً، فمن هاجر لابد وأن يجد الرجاء، من هاجر سوف يصطدم، فما الذي يفتح له الأبواب؟ وما الذي يسهل له الصعاب؟ وما الذي يجعله يتخطى تلك العقبات؟ إنه الرجاء، فإيمانه ومعرفته بالله هو أصل المعرفة، ثم هجرته إلى الله بقلبه وإن احتاج ذلك إلى أن يهاجر ببدنه فذلك الذي يفتح له باب الرجاء.



الجهاد في سبيل الله


ثم الجهاد في سبيل الله، وأصله بذل الجهد في مرضاة الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل) وقمة ذلك بلا شك بذل الجهد في جهاد الكفار، وهذا القتال هو ذروة سنام الإسلام؛ لأنه تتمة لذلك الجهاد الباطن، وذلك الجهاد الباطن هو أصله، وهذا كجبل الثلج يبدو منه قمته وتحت السطح تسعة أعشاره، وحقيقة الأمر أن الخاسر من لم يجاهد نفسه في الله عز وجل حتى يعلمها الحق، وحتى تعمل به، وحتى تأمر به وتدعو إليه وتصبر على مخالفة الناس على ما أصابها في مخالفتهم، ويجاهدها بدفع الشبهات والشهوات التي يبثها الشيطان في النفوس، ويجاهدها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد، ويجاهدها لتبذل في سبيل الله ما استطاع أن يجاهد، ولا شك أنها منة من الله عز وجل أن يقيم الرب سبحانه وتعالى عبده ليبذل نفسه وماله في سبيل الله، إن هذه منة من الله ينبغي أن يظل من حرم منها باكياً على نفسه والله، ينبغي أن يظل باكياً وهو يرى في الأرض في زمنه من يبذل لله عز وجل نفسه وماله ووطنه وأرضه وأهله، يبذل كل ذلك لله عز وجل، ينبغي أن يبكي على نفسه كما بكى البكاءون، قال تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]، مع أنهم غير مقصرين ولكنهم يخافون أن يكون قد فاتهم الخير، والله عز وجل علم منهم عذرهم الذي أقعدهم عن شهود هذه المواطن، وقد نزلت الآيات فيهم تشهد لهم بالإيمان والصدق والإخلاص لله عز وجل، ومع ذلك كانوا يبكون، ونحن ما شأننا؟! أنحن فعلاً نحب الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل بأنواعهما المختلفة، ونحب أن نكتب مع المجاهدين في سبيله سبحانه وتعالى وإن كنا لسنا معهم في أرض المعركة أم أن الله عز وجل قد علم منا ما يكرهه فثبط الهمم والعياذ بالله من ذلك؟! عز وجل ثبط همم أقوام وكره انبعاثهم فأمرهم بالقعود كما قال عز وجل: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]، نعوذ بالله أن نكون من هذا الصنف! فأيهما أولى أن يبكي على نفسه: الذي نزل القرآن ببيان إيمانه وصدقه ونصيحته لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أم من لا يدري ما شأنه؟ فإذا كان الإنسان قد أقامه الله سبحانه وتعالى على ثغرة من ثغرات الدين، فكيف يفرط فيها؟ وكيف يتنازل عنها؟ وكيف ينسحب منها وقد من الله عز وجل عليه بذلك، وهو في الحقيقة إنما ينتظر مناً آخر وفضلاً آخر ليحصل له عظيم الرجاء؟! الله عز وجل جعل الرجاء لمن أتى بهذه الثلاث قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218]، وإلا كان الرجاء أماني، وفرق بين الرجاء وبين أماني الغرور كما قال سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:13-14]، نعوذ بالله من ذلك! غرتهم أماني مغفرة ظنوها قطعية؛ لأنهم أهل دنيا كما قال قائل من هذه النوعية: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، كما يقول القائل إذا أكرمه الله بشيء من الدنيا ونعمه: رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، يرى الكرامة إنما هي في العطاء الدنيوي، ويجزم لنفسه بالآخرة والمغفرة عند الله سبحانه وتعالى من شدة الغرور والجهل، وكم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، وما أروع هذه الكلمة وهي من الحسن البصري رحمه الله! نعم، كثير من الناس يغتر بأمان باطلة، لكن الذي يرجو يجد فعلاً نور الرجاء وشموس الرجاء في قلبه، هذا الذي حقق الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وشهد سنته الماضية في خلقه في أنبيائه ورسله، وفي أعدائه، وعلم عواقب الأمور ونهايتها، ولم يقف عند بداياتها، فهاجر وتحمل مفارقة الناس والآراء ومفارقة الجهالات والأخلاق الفاسدة والضلالات والمنكرات، وتحمل كل ذلك في سبيل الله عز وجل، ثم بذل جهده لإعلاء كلمة الدين ونصرة الإسلام، وسعى لكي يبذل ويضحي في سبيل الله عز وجل، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى. إن النظر فيما ذكر الله سبحانه وتعالى من قصص أنبيائه ورسله من أعظم ما يوقد أنوار الرجاء في قلب العبد المؤمن؛ لأنه يرى كيف كانت سنة الله، وكيف كان فضل الأنبياء، وكيف كان يقينهم مع من معهم من المؤمنين، وكيف كان رجاؤهم في فضل الله! رغم أن كل المعطيات الظاهرة كانت تدعو إلى اليأس كما هذا كثير من المسلمين اليوم، فالكثيرون يشعرون باليأس والحزن العميق؛ لأجل ما أصاب المسلمين وما زال يصيبهم من أنواع البلايا والمحن على أيدي شر خلق الله، على أعدى أعداء الدين من اليهود والنصارى والمشركين والعياذ بالله! ممن يبذل جهده كله في إهانة المسلمين وأذيتهم، ولكن كل هذا في حقيقة الأمر لمن حقق الإيمان مبشرات النصر، وهذه كلها مما يسبب له مزيد الرجاء في قرب الفرج والنصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى، وإنما هي فترة تمحيص وهداية من هدى الله، وفترة تراكم الظلم والباطل بعضه على بعض، فأنت ترى في كل يوم تميزاً حتى من كان عنده مسألة واحدة من الدين، ربما تجد إنساناً عنده مئات المسائل والمواقف من الباطل، وعنده مسألة واحدة من الدين، فيريد أهل الباطل أن يفارقوه، ويقولون له: إما أن تفارق هذه المسألة وتكون معنا وإما فأنت عدونا وضدنا! والله إن الإنسان ليعجب! أنواع الباطل كثيرة جداً، وكثير جداً من الناس يوافق على الباطل، لكن المحنة تكون حتى على مسألة واحدة يكون الإنسان عليها فضلاً عمن كان عنده أكثر من ذلك، كمن عنده مسائل بفضل الله سبحانه وتعالى وقف فيها في صف الحق؛ فعودي، ومن يقف في صف الحق كاملاً، يقوله كله ويلتزم به كله، فلا شك أنه سوف يعادى أتم معاداة، أما ترى ما كان من معارك هائلة من أجل فتوى مثلاً بمنع مصافحة الأجنبية وتحريم ذلك! وما ترى من معارك من أجل الدعوة مثلاً إلى تحريم السجائر أو تحريم التبرج أو نحو ذلك! ترى عجباً! مجرد فتوى تحارب مع مئات الفتاوى الموافقة للباطل، لكن الحق لا يرضي أكثر الناس، فيسعى هؤلاء في المفاصلة، فأهل الباطل هم الذين يفاصلون، أما ترى غطرسة اليهود وكفرهم وعنادهم؟! لو قدم لهم أعظم التنازلات وأكبر التراجعات لا يقبلون ذلك، كما وصفهم الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فالقضية واضحة جداً، والغرض المقصود: أن شهود سنة الله سبحانه وتعالى في أنبيائه ورسله يفتح للقلب أنوار الرجاء، وينير القلوب ويمنعها من حصول اليأس الذي هو من الكفر.



قبسات من مواقف نبي الله يوسف عليه السلام




الشكوى إلى الله سبحانه


نريد أن نقتبس قبسات من هذه الأنوار من مواقف أنبياء الله سبحانه وتعالى متفرقة عبر التاريخ، لكنها تلتقي في هدف واحد، وطريق واحد، وهي أن هذا الرجاء يعظم عندما تكون الأسباب مخالفة، وعندما تنعدم الأسباب الموافقة، وعندما تكون ظواهر الأمور كلها في صالح الأعداء. فلنتأمل في قصة يوسف ويعقوب صلى الله عليهما وسلم، قال الله عز وجل: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:84-87]، ففي هذه الآيات عدة فوائد ولن نحصيها، أولها: أنه لما ازداد الكرب على يعقوب عليه السلام بعد فقد ابنه الحبيب الذي علم ابتلاء الله عز وجل له، وعلم صفاته المتميزة التي تؤهله لوراثة النبوة، فقده وهو أحب الناس إليه، يحبه لجميع الأوصاف التي فيه، فهو أكرم الناس، وأجمل الناس، والصفات الإيمانية قبل ذلك وبعده متضمنة لكل محبة، وفقده في أشد سن يتعلق فيه الأب بابنه خصوصاً وهو يرى ضعف باقي الأبناء وعجزهم، فتأتيه مصيبة أخرى! فقد بنيامين وفقد كبيرهم الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي [يوسف:80]، ثلاثة من أبنائه يبتعدون عن أبيهم، فما تذكر بهذه المصيبة عندما نزلت به إلا أمر يوسف، تذكر المصيبة فكانت الشكوى إلى الله؛ لذلك الشكوى إلى الله عز وجل وبث الحزن إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تفريج الكروب، الشكوى إلى الله تسمعها في نداء نوح: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [نوح:5-6]، دعاء فيه شكوى إلى الله، وتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وفي الحديث الآخر: (جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، الشكوى إلى الله من أعظم العبادات في فترة المحنة، تشكو إلى الله وتقول: يا رب! فعلوا كذا وكذا.. يا رب! ظلموا وفجروا وكفروا ونافقوا. ويعقوب عليه السلام يشكو إلى الله: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، وهذا الرصيد الهائل في قلب العبد المؤمن يجعله يرجو دائماً ولا يصل أبداً إلى اليأس، بل يزداد رجاءً وإيماناً، (أعلم من الله) أي: من صفاته ومن أسمائه الحسنى، يعلم من أفعاله وسنته الماضية مالا يعلمون، يظنون الأمور تعقدت تعقداً هائلاً لا مخرج منه، أصبح بنيامين عبداً، وذاك الآخر لن يرجع لأنه لن يتمكن من أخذ أخيه، ويوسف قد ضاع من زمن بعيد، فمن أين الحصول على يوسف؟ ولكن يعقوب يشكو إلى الله. فلنكثر من الدعاء والشكوى إلى الله، وهو عز وجل يعلم ما يفعله الكفرة ولسنا بالذين نعلم الله سبحانه وتعالى في دعائنا وشكوانا ما الذي يقع، فإن الله عز وجل أعلم منا ولكن نشكو له تضرعاً وتذللاً، والله يحب أن يسمع منا الشكوى والتضرع إليه سبحانه وتعالى، ويجب أن نظهر حزننا على ما يجري للمسلمين. ثم قال: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87]، ففيه الأخذ بالأسباب، وقبل أن ننتقل من نقطة الشكوى نقول: الشكوى تكون إلى الله، فمن تشكو؟ أولاً: تشكو إلى الله نفسك الأمارة بالسوء، تشكو إلى الله سبحانه وتعالى أنها لا تطاوعك على ما تريد من طاعة الله حتى يصلحها الله عز وجل لك، وحتى يهيئها لكي تتقبل الخير وتستجيب له وتنتفع به. وتشكو إلى الله عز وجل غيرك ممن ظلم وفجر. وتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ما تجد من حولك من فقد المعين على الخير، والمعاون على البر والتقوى، وجلد من ليس بثقة ولا بأمين، تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، فسمع نشيجه من آخر المسجد، بكى بكاءً عظيماً، و عمر كان يحمل هم أمة الإسلام، مع أنه رضي الله عنه فتح الأمصار، وفتح الفتوح، ولكن كان يتمنى حجرة مليئة بمثل أبي عبيدة بن الجراح يستعملهم، كان لا يجد من يستعملهم، تخيلوا وضع الصحابة رضي الله عنه ونوعية هؤلاء و عمر يشكو إلى الله يقول: اللهم إليك أشكو ذنب الفاجر، وعجز الثقة! لا يدري من يستعملهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى بيتاً مليئاً بالرجال يكفونه تعليم الناس وقيادتهم إلى الخير والجهاد في سبيل الله، ووزن الأمور بالموازين الشرعية، والإفتاء والقضاء والحكم وسائر أنواع الوظائف، عمر في زمنه يشكو، وكيف لا يشكو ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة تكاد لا تجد فيها راحلة)؟! فإذا كان هذا في زمن الأنبياء وزمن الخلافة الراشدة فما الظن بزمننا عباد الله؟! فنشكو إلى الله أنفسنا أولاً؛ لأنها نفوس فيها ضعف وعجز وتقصير شديد، تحتاج إلى أن يصلحها الله سبحانه وتعالى، ونشكو إلى الله من حولنا ممن معنا وممن علينا، ونشكو إلى الله ونتضرع إليه سبحانه عسى الله عز وجل أن يغيثنا وأن يزيل شكوانا، ومع شدة هذه العبادة ومع الإكثار منها بإذن الله يكون الفرج، وأنت تلمس ذلك.






النقطة الثانية: الأخذ بالأسباب المقدورة، قال: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87]، والتحسس: هو البحث في الخير، ( فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ )، بدأ بيوسف أولاً؛ لأنه الذي شعر بمدى فقده عندما عجز هؤلاء العشرة أن يحفظوا أخاً لهم، وعجزوا أن يعيدوه له رغم الوعود والمواثيق فضلاً عن عجزهم أولاً عن حفظ أخيهم بسبب حسدهم وما كان منهم من خلف الوعد، ومن الغدر وعدم الأمانة وغير ذلك، لكنه ترفق بهم ونصحهم بأن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فالأخذ بالأسباب المقدورة أمر عظيم الأهمية في حياتنا، قد تكون الأسباب في أيدينا محدودة، والأسباب في أيدي أعدائنا كبيرة جداً وكثيرة، ولكن لنأخذ بالأسباب المقدورة لنا، فإن هذا بإذن الله تبارك وتعالى يكون من أعظم أسباب الرجاء والبعد عن اليأس، ومن أعظم أسباب الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، فالتحسس: البحث عن الخير، أن تبحث وتجتهد فيما تحت يدك. وبالفعل انطلق هؤلاء الأبناء، وجعل الله الفرج كاملاً في لحظة بفضله عز وجل، قال: (( وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ )) لا تيئسوا من إراحته ورحمته عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يرحم من يشاء، ويجعل الروح والراحة والإراحة من عنده سبحانه وتعالى في أي وقت يشاء، قال تعالى: (( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ))، إن اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر، ولذا قال صاحب الطحاوية: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام يعني الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، فالمؤمن موقن بصفات الله، ويوقن أنه الرحمن الرحيم، فكيف ييئس من رحمته وقد علم أن الله ادخر عنده تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة، وأنزل رحمة وزعها على الخلق، فبها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها، فكيف ييئسو من هذه الرحمة الواسعة؟! الله عز وجل أرحم الراحمين، فاليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، والإلقاء باليد يأساً من الفرج؛ هو من الكفر والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب الخذلان، قال تعالى: (( وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ )). ذهبوا إلى يوسف وقد أصابهم نوع من الذل، وانكسروا له وهم لا يدرون، قال الله: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف:88]، انظر كيف كانوا يهينونه عندما ألقوه في البئر، واليوم يقفون منكسرين يقولون: (( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ))، إنها عزة والله، أعزه الله، وليس هذا مجرد اسم فقط، لكن أعزه الله فوقهم، يقولون: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88]، حصل فقر شديد، وحاجة شديدة، وجاءوا ببضاعة بائرة، بضاعة لا تستحق أن تشترى، يعلمون أن بضاعتهم مزجاة، ومع ذلك يرجون الفضل، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88]، لسنا بالذين نجزيك، فنحن لا نستطيع أن نجزيك، وهنا ظهر الكرم الحقيقي، وظهرت الرحمة والشفقة، وظهرت الخصال الحميدة التي كانت مقتضية بتفضيله عليهم فعلاً، والتي لمحها يعقوب قديماً، وأخبر يوسف أنه مجتبا ًمن عند الله، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ [يوسف:89-90]، كشف يوسف عن نفسه، وبين لهم أنه يوسف؛ فكان الفرج من جميع الجهات، ظهر يوسف، وظهر بنيامين ، وظهر الثالث، وعادوا جميعاً، وعاد ليعقوب بصره، واجتمع شمل هذه الأسرة بفضل الله سبحانه وتعالى، جاء فضل الله وفرجه بالصبر وعدم اليأس من رحمته، وكلما ازداد الضيق اقترب الفرج، أول ما سمع يعقوب بأخذ بنيامين قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83]، وذلك لماذا؟ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83]، وهكذا كان فعلاً ما توقعه يعقوب، وعسى من الله سبحانه وتعالى واجبة، وهو رجاها بفضل الله، فهذا نبي رجا من الله سبحانه وتعالى، وحصل له الرجاء عندما اشتد الكرب، فعندما يشتد الكرب يعظم الرجاء عند أهل الإيمان؛ لأنهم يعلمون أن الله هو العليم الحكيم. وهذا من تحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته، فشهود آثار هذه الأسماء والصفات وأفعال الرب سبحانه وتعالى التي يرى العبد آثارها وتأثيرها في هذا الكون؛ يجعله يعظم الرجاء عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:90-92]، أي كرم هذا؟! ونحن نرجو من الله عز وجل أكرم الأكرمين أكثر مما رجاه إخوة يوسف من أخيهم عندما استكانوا له وذلوا، ونحن قد أصابنا وأمتنا الضر، وجئنا بأعمال وصفات مزجاة، أعمالنا مزجاة لا تستحق أن تقبل، دعواتنا وعبادتنا وصفاتنا لا تؤهلنا لشيء، أعمالنا مزجاة، وجئنا بأعمال مزجاة، بضاعتنا لا تصلح أن يشتريها الرب سبحانه وتعالى إلا بكرمه، فنسأله أن يقبل منا ما لا يستحق القبول، وأن يمن علينا بفضله وهو أكرم الأكرمين سبحانه وتعالى، وإنما كرم الكرماء في الدنيا أثر من كرمه عز وجل، ولولا أنه الكريم لما وجد كرم في الدنيا، الكرم المخلوق في قلوب العباد إنما هو أثر من آثار اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكرم الذي هو صفته عز وجل، فالكريم هو الله سبحانه وتعالى؛ لذا نرجو الله عز وجل أن يمن علينا بفضله، وأن يتكرم علينا بأن يقبلنا رغم أننا لا نستحق القبول، وأن ينصرنا رغم أننا لا نستحق النصر.





[/center][/center][/center]


توقيع :

مدونة اخوكم الفقير الى عفو ربه / سمير السكندرى


http://samirelsakndry.maktoobblog.com/

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-20-2011, 03:27 PM
الصورة الرمزية المشتاقة للجنة
المشتاقة للجنة المشتاقة للجنة غير متواجد حالياً

مراقبة عامة

 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
المشاركات: 4,422
افتراضي

و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

جزاكم الرحمن خيرا ونساله هو البر الرحيم ان يصلح امورنا


توقيع : المشتاقة للجنة


اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات

اللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين

رد مع اقتباس
إضافة رد


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
انوار الرجاء تبدد ظلمات اليأس للاخ سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 4 06-20-2011 10:38 AM
إذا اشتملت على اليأس القلوب لعائض القرني المشتاقة للجنة روضة الصوتيات والمرئيات العامة 2 04-09-2011 02:44 PM
اللحية زينة الرجال المشتاقة للجنة الروضة الاسلامية العامة 2 01-25-2011 03:55 PM
منهاج اهل السنة فى تقييم الرجال لاخيكم / سمير السكندرى سمير السكندرى روضة صوتيات ومرئيات فضيلة الشيخ سمير السكندري 2 05-14-2010 10:06 AM
برنامج أنوار العابدين للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل الفقير الى الله روضة صوتيات ومرئيات القنوات الفضائية 2 11-04-2009 06:02 PM

استضافة الحياة

الساعة الآن 09:59 PM.


Powered by vBulletin® v3.8.4, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , TranZ By Almuhajir
النسخة الفضية
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

SlamDesignzslamDesignzEdited by Riad Al-Ganah Team - جميع الحقوق محفوظة لشبكة رياض الجنة

Privacy Policy Valid XHTML 1.0 Transitional By SlamDesignz Valid CSS Transitional By SlamDesignz