المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة / شائعة العفيصان رائحة الندى


أم عبد المنعم
01-26-2012, 12:04 AM
قصة / شائعة العفيصان

رائحة الندى

http://saaid.net/mktarat/alzawaj/img/ah-t-63-1.jpg

أمسكت ديمة بيد أستاذة سمر الأخصائية النفسية وقالت وهي تبكي..
(بربك أي عدل هذا الذي تحدثيني عنه؟! بعد ثمانية عشر عاماً تخبريني..؟! بعد أن بدأت جراحي تلتئم تفتحينها وتؤلميني؟! لماذا في هذا الوقت بالذات؟)

مسحت دموعها عن خدها..
(هل تعلمون ما الذي نعانيه؟! هل تعلمون الآلام التي نعيشها؟!)

تنهدت بحرقة وهي تقول..
(أعرف أننا لديكم مجرد أرقام وحالات وملفات تدرسونها اجتماعياً ونفسياً! أما آلامنا.. جراح قلوبنا التي لم تذق طعم الحب والحنان فلا تعرفون عنها شيئاً)

حاولت سمر مقاطعتها والتعليق على كلامها لكنها لم تستطع.. فلاذت بالصمت..

اقتربت ديمة من المكتب وأمسكت صورة أطفال الأستاذة وقربتها من وجه الأستاذة وهي تقول بهدوء..
(انظري..
انظري لصورة أطفالك..
انظري لعيونهم..
وقارني بينها وبين عيوننا..
عيا قارني..
لتعلمي أن الفرق بيننا كبير.. وشاسع..
عيون مشبعة بالدفء.. وأخرى محرومة ضائعة تبكي بلا دموع..)
رفعت عينيها نحو سقف الغرفة بهدوء.. وقالت بهمس..
في كل ليلة..
كل ليلة.. أتأمل وجهاً من صنع خيالي..
أرسم التفاصيل لوجه حبيب وأخط له أجمل عيون.. وأجمل أنف وفم.. أمنحها صوتاً رخيماً دافئاً..
أجلس في أحضانها.. وأقبلها.. وأتركها تمسح بيدها على شعري..
تلك الأم.. التي تخلت عني..
تنهدت ثم أكملت بخيبة أمل.. وهي تنظر للأرض..
(حقاً لا أحد يعرف ظروفها.. لكن.. لا عذر لها..)
وفجأة داهمتها موجة غضب وصرخت..
(لا عذر لها أن ترميني في الدار أتعذب بلا أم أو أب كل تلك السنوات.. لا عذر لها أن تترك فلذة فؤادها بين المربيات المستأجرات.. تقاسي الأمرين.. تتسول من أعينهن نظرة حنان أو حب فلا تجد.. يتغيرن سنة بعد سنة.. فلا تثق في حب مربية خوفاً من فقدانها وذهابها..)

(لا تكوني قاسية هكذا يا ديمة.. فأنتم ولله الحمد نحظون بالرعاية والعناية والمسؤولون يقومون بزيارتكم و..)

رفعت ديمة يدها مقاطعة.. وقالت باستخفاف..
(نعم.. نعم.. يقومون بزيارتنا مرة أو مرتين في السنة، لكن كضيوف شرف ومعهم الإعلاميون لتسجيل الزيارة.. وبالطبع قبل قدومهم يتم تنظيم الأمور حتى يبدو الوضع بلا مشاكل أمامهم!!

(لا يا ديمة.. لا تتحدثي بهذا الأسلوب السوداوي.. تفاءلي واحمدي الله..

أكملت ديمة بهدوء غير آبهة بما قالته سمر..
(في صغرنا.. كنا نعلم أننا أيتام فقط.. كانت لنا كرامة بعض الشيء.. هه.. كان الجهل نعمة لنا.. رغم الألم والحرمان واليتم.. كنا غارقين في عالم الطفولة البريء..
أما الآن فقد تغير كل شيء.. بدأت مشاكلنا في الظهور.. وكل باحثة أو دارسة نفسية تأتي إلينا تبدأ في إظهار قدراتها وتتعامل معنا كفئران تجارب حتى تثبت صحة نظرياتها!
نظرت نحو البعيد تسترجع ذكريات قديمة..
(لا أنسى ذلك اليوم الحزين الذي عرفت فيه حقيقتي وكان عمري اثنا عشر عاماً فقط..
طبقت علينا إحدى الباحثات النفسيات نظريتها حتى تستكشف رد الفعل.. فشرحت لنا وضعنا الاجتماعي ونحن في ذلك السن..
حقيقتنا المرة.. أننا.. لقطاء.. أطفال غير شرعيين..
أي حقيقة أكثر ألماً من هذه؟.. قولي لي..!)
وانكفأت على وجهها باكية بحرقة..

لم تعرف سمر ماذا تقول لها.. وأخذت تفكر في هذه النظرية التي وجدت ترحيباً من المسؤولين والمهتمين كدراسة تطبيقية. ولكن إنسانياً.. ألم يفكروا في ألمها؟ ألم يتخيلوا كيف تحطم أنفس هؤلاء الأيتام وأرواحهم الشفافة وهم في ذلك السن الخطر؟ ما جرمهم.. ما ذنب هؤلاء الأبرياء حتى يسقوا العلقم..؟

قامت ديمة ووقفت أمام سمر.. وأكملت بتلعثم..
(عندما علمنا بحقيقتنا أول الأمر كنا نلعن تلك الأم التي تخلت عنا.. وعندما هدأت براكين الغضب.. بدأنا نفكر بهدوء.. لم يعد في أعيننا سؤال سوى.. من نكون؟ من أمهاتنا؟ من هي هذه الأم التي رمت بقطعة قلبها في الشارع لتمسح فعلتها الدنيئة؟.. أين هي الآن؟ هل هي موجودة وحية؟ هل تفكر بنا كما نفكر بها؟ أم أنها قد نستنا تماماً؟ هل تحس بما نتعرض له من ألم كل يوم بسببها؟ هل.. هل تحبنا؟
فيما بعد.. لم نعد نكرهها.. لأننا لم نعرف الحب.. فكيف نكره؟!
كم تعرضنا في حياتنا للظلم والقسوة... فأي خطأ نرتكبه ولو كان بسيطاً يفسر ألف تفسير وتفسير.. فنحن.. مختلفون عن الأطفال الأسوياء.. نحن.. موطن شك وريبة..
لم تستطع أن تتماسك فانهارت بالبكاء مرة أخرى..

اقتربت منها الأخصائية وضمتها إليها ومسحت على رأسها وهي تقول..
(كل هذه المشاعر تخفينها يا حبيبتي؟)..
هدأت نفسها وتذكرت السبب الذي من أجله استدعتها الأخصائية.. فقالت..
(حسناً.. أوافق أن أقابلها يا أستاذة سمر.. لكن بشرط.. أن أراها دون أن تراني.. أريد أن أسمع صوتها.. أرجوك أريد أن أسمع صوتها وقصتها كاملة وبعدها أقرر وأخبرك بموافقتي على لقائها أو لا..)
قالت سمر (من حقك يا ديمة اتخاذ القرار ولن نجبرك على شيء.. ستأتي صباح الغد بإذن الله.. اذهبي الآن إلى غرفتك.. وخذي حماماً منعشاً ونامي جيداً وسأرسل لك قبل مجيئها صباحاً)..
حين خرجت من غرفة الأخصائية اتجهت إلى غرفتها فوجدت أخواتها من أسرتها تجمعن هناك.. ارتمت على صدر أختها هناء باكية.. فقالت صباح بتهكم.. (احمدي الله يا ديمة.. فبدل أن تفرحي بهذا الأمر تتأزمين وترفضين؟ حقا أنت غريبة!)
ثم أتبعت (ليتني في مثل وضعك لرضيت وقنعت.. ولكن هيهات أنا أعلم بوضعي كله.. !)
ووقفت وهي تؤدي حركات استعراضية.. وتشير بيدها كالمهرج..
(أنا ابنة السنيورة!.. الجميلة! حاوية القمامة.. القبيحة..!).. وقهقهت ضاحكة بمرارة.. وابتعدت راكضة بعيداً عن المجموعة تكاد تحرقهم بنظراتها الغاضبة..
نظرن إلى بعضهن نظرات كسيرة.. نعم إن لكل واحدة قصة لا ناقة لها بها ولا جمل.. فهن مجرد ضحايا..

* * *

استيقظت ديمة على يد تهزها برفق وصوت يناديها..
- ديمة.. ديمة.. انهضي حان الموعد ستأتي..!
أفاقت بعينين ناعستين ذبلت رموشها من كثرة البكاء طوال الليل.. وابتسمت لهناء رفيقة دربها.. السمراء الحنونة..
- أحقاً يا هناء؟! ستأتي هي بنفسها..؟
- نعم.. هي ستأتي بعد قليل.. هيا يا كسولة بسرعة.. هيا..
قامت ديمة بتثاقل فهي لا تملك حيوية هذه الجوهرة السمراء هناء..
لبست ديمة ملابسها بكل عناية.. ورفعت شعرها الطويل بشكل مرتب.. وارتدت صندلاً خفيفاً.. وبدت رقيقة وجميلة..
سارت في الممر الطويل المؤدي إلى المكتب الخاص للأخصائية سمر بالقرب من الحديقة الصغيرة..
لم تكن تشعر بأي مشاعر.. طرقت الباب بكل أدب ثم دخلت.. باغتتها سمر..
- هيا بسرعة! أخرجي من الباب الخلفي وسأفتح الشباك حتى تسمعي كل ما يدور بنفسك..
وقفت ديمة خلف الشباك وأحست بحركة وسمعت عبارات ترحيب.. فبدأ قلبها يخفق بشدة.. يكاد يقفز من بين أضلاعها.. فتماسكت ودعت الله أن يعينها..
وبيدين مرتجفتين سحبت جزءاً من الستارة.. لكنها لم تر شيئاً فالضيفة قد أعطتها ظهرها من الخلف ولم تميزها لأن العباءة تغطيها من أعلى رأسها لأخمص قدميها..
سمعت سمر تتحدث للمرأة.. ثم سمعت المرأة لأول مرة تتحدث.. بدأت تبكي وتقول..
(أرجوك يا أستاذة سمر أنا متأكدة أنها ابنتي الحبيبة.. لديها شامة مدورة بحجم الريال المعدني وأنا لدي واحدة بذراعي مثلها..
رفعت ديمة كم بلوزتها.. وأخذت تنظر للشامة وكأنها تنظر إليها للمرة الأولى وهي ترتعش من التأثر والقلق..
أخذت الضيفة ترجو سمر أن تراها وتقابلها.. وتقول..
(أرجوك.. لم يعترف لي والدي إلا منذ فترة بسيطة قبل وفاته.. فاجأني بطلبه السماح مني قائلاً أنه كان يحترق ألماً علي لكنه لم يرد إخباري.. لقد قال لي والدي أن ابن عمي صادق في أنه لم يختطف ابنتي أو يقتلها.. وأعطاني والدي حقيبة سوداء قال أن كل الحقائق موجودة فيها.. قال والدي.. أنه تخلص هو من ابنتي لأنه لم يتحمل أن يترك ابنة من خان الأمانة تعيش معه..
قال والدي بكل حسرة وندم.. أنه لم ولن يسامح ابن أخيه الذي انتهك عرضي.. عرض ابنته الوحيدة.. لذا أراد أن يتخلص من هذه الطفلة البريئة التي كانت ستلطخه بالعار.. فوضعها أمام دار حضانة الأطفال الأيتام مع رسالة تفيد بأن اسمها ديمة عبد الله..)
تنهدت قليلاً ثم أكملت..
(أخبرني والدي أنه كان يزور الدار كل أسبوع ليراها حين كانت طفلة.. كان يزورها بصفة أنه متبرع وفاعل خير.. ألا تعرفينه.. إنه الشيخ أبو محمد الزائر الدائم للأطفال..)
ترددت ثم قالت بعاطفة شديدة..
أرجووووك يا أستاذة سمر.. أرجوووك أريد أن أراها الآن.. لم أعد أحتمل.. أريد أن أرى ابنتي)
وحاولت أن تنهض فلم تستطع فوقعت على الأرض من على كرسيها المتحرك..
صرخت ديمة من شدة التفاعل مع أمها التي لم تتخيل يوماً أن تكون معاقة.. وأطلت من النافذة.. التفتت الأم إلى مصدر الصوت.. فكأنها تنظر لصورتها في شبابها..
(إنها ابنتي!!.. ابنتي) قالتها شاهقة.. وأخذت تزحف نحو النافذة بكل ما تستطيع..
أقبلت ديمة مسرعة من الباب تصرخ (يمه.. يمه).. ومدت يديها نحو أمها تعانقها وتقبلها وتشم رائحتها التي افتقدتها طوال حياتها ولم تعرفها إلا هذا الصباح مع رائحة الندى..
(عذراً يا أمي لم أكن أعلم بحقيقة قصتك، وحالتك الصحية.. سامحيني لأني لم أوافق على رؤيتك سامحيني)
صمتت الأم طويلاً إلا من شهقات البكاء ثم قالت..
(والله يا بنيتي لم يكن لي يد في ما جرى لك.. لقد حملت بك كما علمت بسبب اعتداء من ابن عمي.. وفوجئت باختفائك بعد ولادتك بساعات.. كان قلبي يحترق ألماً طوال ثمانية عشر عاماً وأنا لا أعرف مصيرك المجهول)
أخذت ديمة تقبل يدي أمها وتمسح بها دموعها.. عاجزة عن الكلام..
(كلانا يا ديمة ضحية.. فنحن وجهين لعملة واحدة...)..