المشتاقة للجنة
04-12-2011, 09:20 PM
http://montada.khaledbelal.net/mwaextraedit4/extra/30.gif
والإيمان بالقدر ينقسم الناس حوله ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نفوا قدرة الله وهم المعتزلة فقالوا: إن العبد يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العباد، بل العبد هو الذي يتحرك بنفسه، وهو الذي يفعل بنفسه، والله لا يقدر أن يرده، فلو أراد العبد شيئا وأراد الله ضده، لم يقدر الله على أن يرده!
وهؤلاء غلوا في قدرة العبد، ونفوا قدرة الله، وادعوا أن ذلك تنزيه لله، وهؤلاء في الحقيقة قد تنقصوا الله، وجعلوه عاجزا! وقد تكلم بعض العلماء عليهم في ذلك، ومنهم صاحب شرح الطحاوية، وأورد لذلك قصصا وأمثالا .
القسم الثاني : غلبوا قدرة الله وهم الجبرية الذين لم يجعلوا للعبد أية قدرة، بل جعلوه مجبورا على حركاته وعلى أفعاله، وليست له أية أفعال، ولا تنسب إليه أية أقوال، بل إن حركاته بمنزلة حركة الشجر التي تحركها الرياح، أو حركة المرتعش الذي ترتعد يداه، ولا يقدر على أن يمسكهما، فجعلوه مجبرا على فعله، ولم يجعلوا له أي اختيار في ذلك، ويقول قائلهم:
ألقـاه في البـحر مكتوفا وقـال لـه إيـاك إيـاك أن تبتـل بالمـاءِ!! ويقول آخر:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهن الرسن لــــو أرادوا صيــانتـــي ستـــروا وجهــك الحســن
فكأنهم يقولون: إن الله هو الذي أوقع العبد في المعصية، وهو الذي حرك أفعاله، فإذن تعذيبه له يكون ظلما ، فليس للعبد أي اختيار!! ولا شك أنهم مخطئون.
ولا بأس أن أعلق على أقوالهم وإن كان الكلام يستدعي طولا، فأقول:
إن هؤلاء متناقضون؛ ذلك لأنهم لا يستمرون على فعلهم، بل إنهم لا يعتمدون عليه في كل الأحوال، ولا يحتجون بالقدر في كل حال من الأحوال.
ونقول لهؤلاء: إذا كان الحال كذلك فلا تطلبوا المعيشة ما دام أن الله قدر لكم رزقا، فإنه سيأتيكم به، اجلسوا في بيوتكم ولا تتكسبوا، ولا تحرثوا، ولا تزرعوا، ولا تتاجروا، ولا تتعلموا، ولا تعملوا، أي عمل! بل لا تأكلوا، ولا تشربوا، ولا غير ذلك، فإذا كان الله قد قدر لكم ذلك، فإنه سيأتيكم ويصل إليكم!
فلو قلنا ذلك لهم لما امتثلوا، فدل ذلك على أنهم متناقضون.
فما دام أنك تقدر، وأنك تقلب في أمور الدنيا، فلماذا لا يكون لك القدرة على الأعمال الصالحة، مثل العبادات والطاعات والحسنات والقربات ونحوها؟!
كذلك أيضا نقول لهم: إن هذا كله بقضاء وقدر، ولكن لكم أفعال تستطيعون بها أن تنسب إليكم، فقد روي أن عمر -رضي الله عنه- رفع إليه سارق، فلما أراد أن يقطع يده قال السارق: يا أمير المؤمنين، هذا قدر، فالله قدر علي هذه السرقة. فقال عمر -رضي الله عنه- أنت سرقت بقدر الله، ونحن نقطع يدك بقدر الله. فإذا كان هذا بقدر، فهذا أيضا بقدر!
كذلك ذكر أن رجلا كان يقود أعمى، فجعل يقوده بعنف، وجعل يعثر به في الحفر، وفي الحجارة، ونحوها ويقول: هذا بقدر! هذا مقدر! ثم إن الرجل الأعمى ضربه بعصاه بقوة، فقال: هذا أيضا بقدر، فإذا كان تعثرك بي وتعمدك بي بقدر، فأنا أضربك بقضاء وقدر!
ونقول لهؤلاء أيضا: إن العقوبة التي رتبها الله تعالى على هذه الأفعال، لا شك أنكم تستحقونها؛ لأن الله رتب على من فعل كذا عقوبة كذا، فالعقوبة على أفعالكم بقضاء وقدر.
http://montada.khaledbelal.net/mwaextraedit4/extra/20.gif
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة: إن عقيدة أهل السنة أن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أو جعل لهم اختيارا يفضلون به بعض الأعمال على بعض؛ فلذلك تنسب إليهم أعمالهم، وتضاف إليهم أفعالهم، ولو كانت بقضاء الله وبقدره وبمشيئته، فإنه -سبحانه- لا يعصى قسرا، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكن له الحجة البالغة.
والله -سبحانه وتعالى- يذكر دائما احتجـاج المشركين بالقدر، ثم يـرد عليهم، وينكر عليهم، مثل قولـه تعالـى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif سَيقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=6 &nAya=148)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif - هذا احتجاج من المشركين بعموم مشيئة الله – إلى قوله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=6 &nAya=149)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فأخبر بأن له الحجة، ولو شاء لهداهم.
ويقول تعالى في آية أخرى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=26 &nAya=4)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فهو -سبحانه وتعالى- لو شاء لهداهم، ولكن اقتضت حكمته أن يكون في هذا الخلق سعيد وشقي، وفاجر وتقي، وكافر ومسلم، ومشرك وموحد، وعابد وغير عابد، اقتضت ذلك حكمة الله -سبحانه وتعالى- واقتضى أمره وحكمته أن جعل الناس قسمين: قسم خلقهم للجنة فبعملها يعملون، وقسم خلقهم للنار فبعملها يعملون.
ومكن كلا منهم، وأعطاهم إرادة، وأعطاهم قدرة يزاولون بها أعمالهم، وتلك القدرة وتلك الإرادة هي التي يثابون أو يعاقبون عليها.
ومع ذلك فإنهم كلهم تحت مشيئة الله، ولهم مشيئتهم، ولكنها مرتبطة بمشيئة الله، يقول الله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=81 &nAya=28)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif يعني أن لكم مشيئة على الاستقامة، ومع ذلك فإن مشيئتكم مرتبطة بمشيئة الله.
وقال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=74 &nAya=55)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
وقال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=76 &nAya=29)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فالله أثبت للعباد مشيئة، ولكنها مغلوبة بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- وله الحكمة في ذلك، وبمشيئة هؤلاء العباد الذين مكنهم وأعطاهم إياها، يثابون ويعاقبون عليها.
فعلى كل حال نقول لهؤلاء الذين يقولون: (سبق الكتاب)، (وكتب الكتاب) ونحو ذلك.
نقول لهم: قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من القوم: ألا نتكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits214.htm) http://www.ibn-jebreen.com/images/margintip.gif .
فقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أن للإنسان عملا فقال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=5)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif وهذه كلها أعمال، ثم قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=7)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif أي إذا عمل صالحا كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى.
ثم قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=8)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif وهذه أيضا أعمال، قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=10)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif أي إذا عمل أعمالا غير صالحة، كالبخل والكذب ونحوها، فإنا سنيسره للعسرى.
فالإنسان إذن له عمل، وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلو شاء الله تعالى لم يستطع، ولو شاء الله لرده، ولحال بينه وبين ذلك، لكنه شاء، وله مشيئته التامة، فخلى بينه وبين هذا الاختيار، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وتوعدهم على ذلك:
فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه، وإن كان الله قادرا على هدايتهم.
ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه، وإن كان الله قادرا على إضلالهم.
وله الحكمة البالغة بأن خلق هؤلاء للجنة وهداهم، وأقبل بقلوبهم، فله المنة عليهم، فلا ينعمهم إلا بفضله. وخلق هؤلاء للنار، ويعذبهم بها، وإن كان قادرا على أن يهديهم، ولكنه حال بينهم وبين ذلك، ولم يوفقهم لأسباب الهداية، وجعل لهم الاختيار في أن فضلوا الشر على الخير، فإن عملوا بالشر وصاروا من أهله، عاقبهم ربهم، وعقوبتهم تكون عدلا منه وليس ظلما: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=18 &nAya=49)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
وبالجملة فإن الكلام في هذا يطول، ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع رسالة شيخ الإسلام، وغيرها من الرسائل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
خاتمة وبعد هذا الجواب المفصل المقنع إن شاء الله فإننا نذكر مثالين - واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر - ، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابة: الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية ، فقال
المثال الأول: رجل كان مسرفا على نفسه كثير الجراءة على المعاصي
وبعد هذا الجواب المفصل المقنع -إن شاء الله- فإننا نذكر مثالين –واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر–، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله– في كتابه (الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية) فقال:
المثال الأول رجل كان مسرفا على نفسه كثير الجراءة على المعاصي فقال له صاحبه –وهو يناصحه ويحاوره–: أما ترتدع عما أنت عليه؟ أما تتوب إلى ربك وتنيب إليه؟ أما علمت أن عقابه شديد على العاصين؟
فقال المسرف: دعني أتمتع فيما أريد؛ فلو شاء الله لهداني، ولو أراد لي غير ذلك لما أغواني.
فقال له الناصح: بهذا الاعتذار الكاذب ازداد جرمك، وتضاعف ذنبك، فإن الله لم يغوك، بل الذي أغواك الشيطان، وانقادت له النفس الأمارة بالسوء، حيث قال الشيطان -مخاطبا لربه- http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=38 &nAya=82)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فالشيطان دعاك إلى المعاصي فأجبته، والله دعاك إلى الهدى فعصيته.
بين الله لك السعادة وطرقها، وسهل أسبابها ورغبك فيها، ووضح لك طريق الشقاوة، وحذرك من سلوكها واتباع خطوات الشيطان، وأخبرك بما تئول إليه من العذاب الشديد، فرضيت، واستبدلت الضلالة بالهدى، والشقاوة بالسعادة.
وجعل لك قدرة وإرادة تختار بهما، وتتمكن بهما من كل ما تريد، ولم يلجئك إلى فعل المعاصي، ولا منعك من الخير، فسلكت طريق الغي، وتركت طريق الرشد، فلا تلم إلا نفسك.
أما سمعت ما يقول الداعي لأتباعه يوم القيامة حيث يقوم خطيبا فيهم: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَـانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=14 &nAya=22)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فقال المسرف: كيف أستطيع أن أترك ما أنا فيه، والله هو الذي قدره علي؟! وهل يمكنني الخروج عن قضائه وقدره؟!
فقال له الناصح: نعم يمكنك الخروج بقدره، والتوبة والإقلاع عما أنت فيه -وأنت تعلم علما لا تشك فيه- من قدر الله، فارفع قدر الله بقدره.
ثم إن قولك: إن المعاصي الواقعة مني من قدر الله . إن أردت أن الله أجبرك عليها وحال بينك وبين الطاعة، فأنت كاذب، وأول من يعلم كذبك نفسك؛ فإنك تعلم كل العلم أنك لو أردت ترك الذنوب لما فعلتها، ولو أردت إرادة جازمة فعل الواجبات لفعلتها، فلقد أقدمت على المعاصي برغبة منك ومحبة لها، وإرادة لا تشك ولا يشك غيرك فيها، وتعلم أن قولك: إنها بقضاء الله وقدره. دفع اللوم عنك، فهل تقبل هذا العذر لو ظلمك ظالم، أو تجرأ عليك متجرئ وقال: إني معذور بالقدر فلا تلمني؟ أما يزيدك كلامه هذا حنقا وتعرف أنه متهكم بك؟!
فقال المسرف: بلى، هذا الواقع.
فقال الناصح: كيف ترضى أن تعامل ربك -الذي خلقك وأنعم عليك النعم الكثيرة- بما لا ترضى أن يعاملك به الناس؟!
وإن أردت بقولك: إنها بقضاء وقدر، بمعنى: أن الله علم مني أني سأقدم عليها، وأعطاني قدرة وإرادة أتمكن بهما من فعلها، وأنا الذي فعلت المعاصي بما أعطاني ربي من القوى التي مكنني فيها من المعاصي، وأعلم أنه لم يجبرني ولم يقهرني، وإنما أنا الذي فعلت، وأنا الذي تجرأت. فقد رجعت إلى الحق والصواب، واعترفت بأن لله الحجة البالغة على عباده.
المثال الثاني: في الآجال والأرزاق : اعلم أن الآجال والأرزاق - كسائر الأشياء - مربوطة بقضاء الله وقدره فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=7 &nAya=34)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك، ومع ذلك، فهي أيضا كغيرها لها أسباب دينية، وأسباب طبيعة مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره، ولو كان شيء سابق القضاء والقدر -من الأسباب- لسبقته العين؛ لقوتها ونفوذها.
فمن الأسباب الدينية لطول العمر وسعة الرزق لزوم التقوى، والإحسان إلى الخلق، لا سيما الأقارب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي يطيل عمره- فليصل رحمه http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits212.htm) .
وذلك أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن وصل رحمه، وصل الله أجله ورزقه وصلا حقيقيا. وضده: من قطع رحمه، قطعه الله في أجله وفي رزقه، قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=65 &nAya=2)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر البغي والظلم للعباد، فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته، وقد يعاقبه عاجلا بقصم العمر.
ومن الأسباب الدينية لمحق الرزق المعاملات المحرمة: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل. فصاحبها يظن -بل يجزم- أنها توسع عليه الرزق، ولهذا تجرأ عليها، والله تعالى يعامله بنقيض قصده، قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=2 &nAya=276)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فالمعاملة بالربا تمحق صاحبها، وتمحق ماله، وإن تمتع به قليلا فمآله إلى المحق والقل، كما أن المتصدق يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يفتحه على غيره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif ما نقصت صدقة من مال، بل تزيده http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits213.htm) (ثلاثا) .
وكذلك الغش وأكل أموال اليتامى والأوقاف بغير حق: من أكبر أسباب المحق، مع ما على صاحبها من الإثم والعقوبة.
ومن أسباب طول العمر وقصره الطبيعية الصحة والمرض، فالعافية من الأسقام سبب لطول العمر، كما أن الأمراض بأنواعها سبب لقصره.
والمسكن والبقعة إذا كانت صحيحة طيبة الهواء، صارت من أسباب عافية أهلها وطول أعمارهم، والعكس بالعكس: البقاع الرديئة المناخ والهواء، أو البقاع الوبيئة سبب لقصر العمر، كما هو شاهد.
والتوقي عن المخاطر والمهالك، واستعمال الأسباب الواقية فائدتها في طول العمر ظاهرة، والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وسلوك المخاطر، وكل أمر فيه خطر سبب ظاهر للهلاك، والأمثلة في هذا كثيرة.
ومن الأسباب المادية في حصول الرزق وسعته استعمال المكاسب النافعة، وهي كثيرة متنوعة، كل أحد يناسب له ما يوافقه ويحسنه، ويليق بحاله، كما قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=67 &nAya=15)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فيدخل في هذا العمل جميع الأسباب النافعة، وكذلك قوله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=2 &nAya=267)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif إلى غير ذلك من الآيات.
وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره، فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها، فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره؛ ولهذا لما قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، ورقى نسترقيها، هل ترد من قضاء الله وقدره شيئا؟ فقال: هي من قضاء الله وقدره http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits215.htm) .
وكذلك الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب والسلامة من المرهوب، وقد أمر الله بالدعاء، ووعد بالإجابة، والدعاء نفسه، والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر.
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالعمل بكل سبب نافع، مع الاستعانة بالله، كما ثبت في الصحيح مرفوعا: http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif احرص على ما ينفعك، واستعن بالله http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif .
فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله؛ لأن هذه هي الاستقامة، وذلك لأن الانحراف من أحد أمور ثلاثة: إما أن لا يحرص على الأمور النافعة، بل يكسل عنها، وربما اشتغل بضدها، أو يشتغل بها ولكن يتكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب، ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها، أو لا يشتغل بالأسباب النافعة، ويزعم أنه متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب، فهذا الحديث بين فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الطرق النافعة للعبادة.
ولنقتصر على هذا فإنه يحصل به المقصود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والإيمان بالقدر ينقسم الناس حوله ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نفوا قدرة الله وهم المعتزلة فقالوا: إن العبد يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العباد، بل العبد هو الذي يتحرك بنفسه، وهو الذي يفعل بنفسه، والله لا يقدر أن يرده، فلو أراد العبد شيئا وأراد الله ضده، لم يقدر الله على أن يرده!
وهؤلاء غلوا في قدرة العبد، ونفوا قدرة الله، وادعوا أن ذلك تنزيه لله، وهؤلاء في الحقيقة قد تنقصوا الله، وجعلوه عاجزا! وقد تكلم بعض العلماء عليهم في ذلك، ومنهم صاحب شرح الطحاوية، وأورد لذلك قصصا وأمثالا .
القسم الثاني : غلبوا قدرة الله وهم الجبرية الذين لم يجعلوا للعبد أية قدرة، بل جعلوه مجبورا على حركاته وعلى أفعاله، وليست له أية أفعال، ولا تنسب إليه أية أقوال، بل إن حركاته بمنزلة حركة الشجر التي تحركها الرياح، أو حركة المرتعش الذي ترتعد يداه، ولا يقدر على أن يمسكهما، فجعلوه مجبرا على فعله، ولم يجعلوا له أي اختيار في ذلك، ويقول قائلهم:
ألقـاه في البـحر مكتوفا وقـال لـه إيـاك إيـاك أن تبتـل بالمـاءِ!! ويقول آخر:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهن الرسن لــــو أرادوا صيــانتـــي ستـــروا وجهــك الحســن
فكأنهم يقولون: إن الله هو الذي أوقع العبد في المعصية، وهو الذي حرك أفعاله، فإذن تعذيبه له يكون ظلما ، فليس للعبد أي اختيار!! ولا شك أنهم مخطئون.
ولا بأس أن أعلق على أقوالهم وإن كان الكلام يستدعي طولا، فأقول:
إن هؤلاء متناقضون؛ ذلك لأنهم لا يستمرون على فعلهم، بل إنهم لا يعتمدون عليه في كل الأحوال، ولا يحتجون بالقدر في كل حال من الأحوال.
ونقول لهؤلاء: إذا كان الحال كذلك فلا تطلبوا المعيشة ما دام أن الله قدر لكم رزقا، فإنه سيأتيكم به، اجلسوا في بيوتكم ولا تتكسبوا، ولا تحرثوا، ولا تزرعوا، ولا تتاجروا، ولا تتعلموا، ولا تعملوا، أي عمل! بل لا تأكلوا، ولا تشربوا، ولا غير ذلك، فإذا كان الله قد قدر لكم ذلك، فإنه سيأتيكم ويصل إليكم!
فلو قلنا ذلك لهم لما امتثلوا، فدل ذلك على أنهم متناقضون.
فما دام أنك تقدر، وأنك تقلب في أمور الدنيا، فلماذا لا يكون لك القدرة على الأعمال الصالحة، مثل العبادات والطاعات والحسنات والقربات ونحوها؟!
كذلك أيضا نقول لهم: إن هذا كله بقضاء وقدر، ولكن لكم أفعال تستطيعون بها أن تنسب إليكم، فقد روي أن عمر -رضي الله عنه- رفع إليه سارق، فلما أراد أن يقطع يده قال السارق: يا أمير المؤمنين، هذا قدر، فالله قدر علي هذه السرقة. فقال عمر -رضي الله عنه- أنت سرقت بقدر الله، ونحن نقطع يدك بقدر الله. فإذا كان هذا بقدر، فهذا أيضا بقدر!
كذلك ذكر أن رجلا كان يقود أعمى، فجعل يقوده بعنف، وجعل يعثر به في الحفر، وفي الحجارة، ونحوها ويقول: هذا بقدر! هذا مقدر! ثم إن الرجل الأعمى ضربه بعصاه بقوة، فقال: هذا أيضا بقدر، فإذا كان تعثرك بي وتعمدك بي بقدر، فأنا أضربك بقضاء وقدر!
ونقول لهؤلاء أيضا: إن العقوبة التي رتبها الله تعالى على هذه الأفعال، لا شك أنكم تستحقونها؛ لأن الله رتب على من فعل كذا عقوبة كذا، فالعقوبة على أفعالكم بقضاء وقدر.
http://montada.khaledbelal.net/mwaextraedit4/extra/20.gif
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة: إن عقيدة أهل السنة أن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أو جعل لهم اختيارا يفضلون به بعض الأعمال على بعض؛ فلذلك تنسب إليهم أعمالهم، وتضاف إليهم أفعالهم، ولو كانت بقضاء الله وبقدره وبمشيئته، فإنه -سبحانه- لا يعصى قسرا، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكن له الحجة البالغة.
والله -سبحانه وتعالى- يذكر دائما احتجـاج المشركين بالقدر، ثم يـرد عليهم، وينكر عليهم، مثل قولـه تعالـى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif سَيقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=6 &nAya=148)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif - هذا احتجاج من المشركين بعموم مشيئة الله – إلى قوله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=6 &nAya=149)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فأخبر بأن له الحجة، ولو شاء لهداهم.
ويقول تعالى في آية أخرى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=26 &nAya=4)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فهو -سبحانه وتعالى- لو شاء لهداهم، ولكن اقتضت حكمته أن يكون في هذا الخلق سعيد وشقي، وفاجر وتقي، وكافر ومسلم، ومشرك وموحد، وعابد وغير عابد، اقتضت ذلك حكمة الله -سبحانه وتعالى- واقتضى أمره وحكمته أن جعل الناس قسمين: قسم خلقهم للجنة فبعملها يعملون، وقسم خلقهم للنار فبعملها يعملون.
ومكن كلا منهم، وأعطاهم إرادة، وأعطاهم قدرة يزاولون بها أعمالهم، وتلك القدرة وتلك الإرادة هي التي يثابون أو يعاقبون عليها.
ومع ذلك فإنهم كلهم تحت مشيئة الله، ولهم مشيئتهم، ولكنها مرتبطة بمشيئة الله، يقول الله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=81 &nAya=28)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif يعني أن لكم مشيئة على الاستقامة، ومع ذلك فإن مشيئتكم مرتبطة بمشيئة الله.
وقال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=74 &nAya=55)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
وقال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=76 &nAya=29)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فالله أثبت للعباد مشيئة، ولكنها مغلوبة بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- وله الحكمة في ذلك، وبمشيئة هؤلاء العباد الذين مكنهم وأعطاهم إياها، يثابون ويعاقبون عليها.
فعلى كل حال نقول لهؤلاء الذين يقولون: (سبق الكتاب)، (وكتب الكتاب) ونحو ذلك.
نقول لهم: قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من القوم: ألا نتكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits214.htm) http://www.ibn-jebreen.com/images/margintip.gif .
فقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أن للإنسان عملا فقال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=5)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif وهذه كلها أعمال، ثم قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=7)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif أي إذا عمل صالحا كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى.
ثم قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=8)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif وهذه أيضا أعمال، قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=92 &nAya=10)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif أي إذا عمل أعمالا غير صالحة، كالبخل والكذب ونحوها، فإنا سنيسره للعسرى.
فالإنسان إذن له عمل، وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلو شاء الله تعالى لم يستطع، ولو شاء الله لرده، ولحال بينه وبين ذلك، لكنه شاء، وله مشيئته التامة، فخلى بينه وبين هذا الاختيار، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وتوعدهم على ذلك:
فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه، وإن كان الله قادرا على هدايتهم.
ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه، وإن كان الله قادرا على إضلالهم.
وله الحكمة البالغة بأن خلق هؤلاء للجنة وهداهم، وأقبل بقلوبهم، فله المنة عليهم، فلا ينعمهم إلا بفضله. وخلق هؤلاء للنار، ويعذبهم بها، وإن كان قادرا على أن يهديهم، ولكنه حال بينهم وبين ذلك، ولم يوفقهم لأسباب الهداية، وجعل لهم الاختيار في أن فضلوا الشر على الخير، فإن عملوا بالشر وصاروا من أهله، عاقبهم ربهم، وعقوبتهم تكون عدلا منه وليس ظلما: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=18 &nAya=49)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
وبالجملة فإن الكلام في هذا يطول، ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع رسالة شيخ الإسلام، وغيرها من الرسائل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
خاتمة وبعد هذا الجواب المفصل المقنع إن شاء الله فإننا نذكر مثالين - واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر - ، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابة: الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية ، فقال
المثال الأول: رجل كان مسرفا على نفسه كثير الجراءة على المعاصي
وبعد هذا الجواب المفصل المقنع -إن شاء الله- فإننا نذكر مثالين –واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر–، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله– في كتابه (الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية) فقال:
المثال الأول رجل كان مسرفا على نفسه كثير الجراءة على المعاصي فقال له صاحبه –وهو يناصحه ويحاوره–: أما ترتدع عما أنت عليه؟ أما تتوب إلى ربك وتنيب إليه؟ أما علمت أن عقابه شديد على العاصين؟
فقال المسرف: دعني أتمتع فيما أريد؛ فلو شاء الله لهداني، ولو أراد لي غير ذلك لما أغواني.
فقال له الناصح: بهذا الاعتذار الكاذب ازداد جرمك، وتضاعف ذنبك، فإن الله لم يغوك، بل الذي أغواك الشيطان، وانقادت له النفس الأمارة بالسوء، حيث قال الشيطان -مخاطبا لربه- http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=38 &nAya=82)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فالشيطان دعاك إلى المعاصي فأجبته، والله دعاك إلى الهدى فعصيته.
بين الله لك السعادة وطرقها، وسهل أسبابها ورغبك فيها، ووضح لك طريق الشقاوة، وحذرك من سلوكها واتباع خطوات الشيطان، وأخبرك بما تئول إليه من العذاب الشديد، فرضيت، واستبدلت الضلالة بالهدى، والشقاوة بالسعادة.
وجعل لك قدرة وإرادة تختار بهما، وتتمكن بهما من كل ما تريد، ولم يلجئك إلى فعل المعاصي، ولا منعك من الخير، فسلكت طريق الغي، وتركت طريق الرشد، فلا تلم إلا نفسك.
أما سمعت ما يقول الداعي لأتباعه يوم القيامة حيث يقوم خطيبا فيهم: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَـانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=14 &nAya=22)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فقال المسرف: كيف أستطيع أن أترك ما أنا فيه، والله هو الذي قدره علي؟! وهل يمكنني الخروج عن قضائه وقدره؟!
فقال له الناصح: نعم يمكنك الخروج بقدره، والتوبة والإقلاع عما أنت فيه -وأنت تعلم علما لا تشك فيه- من قدر الله، فارفع قدر الله بقدره.
ثم إن قولك: إن المعاصي الواقعة مني من قدر الله . إن أردت أن الله أجبرك عليها وحال بينك وبين الطاعة، فأنت كاذب، وأول من يعلم كذبك نفسك؛ فإنك تعلم كل العلم أنك لو أردت ترك الذنوب لما فعلتها، ولو أردت إرادة جازمة فعل الواجبات لفعلتها، فلقد أقدمت على المعاصي برغبة منك ومحبة لها، وإرادة لا تشك ولا يشك غيرك فيها، وتعلم أن قولك: إنها بقضاء الله وقدره. دفع اللوم عنك، فهل تقبل هذا العذر لو ظلمك ظالم، أو تجرأ عليك متجرئ وقال: إني معذور بالقدر فلا تلمني؟ أما يزيدك كلامه هذا حنقا وتعرف أنه متهكم بك؟!
فقال المسرف: بلى، هذا الواقع.
فقال الناصح: كيف ترضى أن تعامل ربك -الذي خلقك وأنعم عليك النعم الكثيرة- بما لا ترضى أن يعاملك به الناس؟!
وإن أردت بقولك: إنها بقضاء وقدر، بمعنى: أن الله علم مني أني سأقدم عليها، وأعطاني قدرة وإرادة أتمكن بهما من فعلها، وأنا الذي فعلت المعاصي بما أعطاني ربي من القوى التي مكنني فيها من المعاصي، وأعلم أنه لم يجبرني ولم يقهرني، وإنما أنا الذي فعلت، وأنا الذي تجرأت. فقد رجعت إلى الحق والصواب، واعترفت بأن لله الحجة البالغة على عباده.
المثال الثاني: في الآجال والأرزاق : اعلم أن الآجال والأرزاق - كسائر الأشياء - مربوطة بقضاء الله وقدره فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=7 &nAya=34)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك، ومع ذلك، فهي أيضا كغيرها لها أسباب دينية، وأسباب طبيعة مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره، ولو كان شيء سابق القضاء والقدر -من الأسباب- لسبقته العين؛ لقوتها ونفوذها.
فمن الأسباب الدينية لطول العمر وسعة الرزق لزوم التقوى، والإحسان إلى الخلق، لا سيما الأقارب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي يطيل عمره- فليصل رحمه http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits212.htm) .
وذلك أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن وصل رحمه، وصل الله أجله ورزقه وصلا حقيقيا. وضده: من قطع رحمه، قطعه الله في أجله وفي رزقه، قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=65 &nAya=2)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر البغي والظلم للعباد، فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته، وقد يعاقبه عاجلا بقصم العمر.
ومن الأسباب الدينية لمحق الرزق المعاملات المحرمة: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل. فصاحبها يظن -بل يجزم- أنها توسع عليه الرزق، ولهذا تجرأ عليها، والله تعالى يعامله بنقيض قصده، قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=2 &nAya=276)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif .
فالمعاملة بالربا تمحق صاحبها، وتمحق ماله، وإن تمتع به قليلا فمآله إلى المحق والقل، كما أن المتصدق يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يفتحه على غيره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif ما نقصت صدقة من مال، بل تزيده http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits213.htm) (ثلاثا) .
وكذلك الغش وأكل أموال اليتامى والأوقاف بغير حق: من أكبر أسباب المحق، مع ما على صاحبها من الإثم والعقوبة.
ومن أسباب طول العمر وقصره الطبيعية الصحة والمرض، فالعافية من الأسقام سبب لطول العمر، كما أن الأمراض بأنواعها سبب لقصره.
والمسكن والبقعة إذا كانت صحيحة طيبة الهواء، صارت من أسباب عافية أهلها وطول أعمارهم، والعكس بالعكس: البقاع الرديئة المناخ والهواء، أو البقاع الوبيئة سبب لقصر العمر، كما هو شاهد.
والتوقي عن المخاطر والمهالك، واستعمال الأسباب الواقية فائدتها في طول العمر ظاهرة، والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وسلوك المخاطر، وكل أمر فيه خطر سبب ظاهر للهلاك، والأمثلة في هذا كثيرة.
ومن الأسباب المادية في حصول الرزق وسعته استعمال المكاسب النافعة، وهي كثيرة متنوعة، كل أحد يناسب له ما يوافقه ويحسنه، ويليق بحاله، كما قال تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=67 &nAya=15)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif فيدخل في هذا العمل جميع الأسباب النافعة، وكذلك قوله تعالى: http://www.ibn-jebreen.com/images/b2.gif يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=2 &nAya=267)http://www.ibn-jebreen.com/images/b1.gif إلى غير ذلك من الآيات.
وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره، فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها، فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره؛ ولهذا لما قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، ورقى نسترقيها، هل ترد من قضاء الله وقدره شيئا؟ فقال: هي من قضاء الله وقدره http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif (http://www.ibn-jebreen.com/takhreeg/book69/Hits215.htm) .
وكذلك الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب والسلامة من المرهوب، وقد أمر الله بالدعاء، ووعد بالإجابة، والدعاء نفسه، والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر.
وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالعمل بكل سبب نافع، مع الاستعانة بالله، كما ثبت في الصحيح مرفوعا: http://www.ibn-jebreen.com/images/h2.gif احرص على ما ينفعك، واستعن بالله http://www.ibn-jebreen.com/images/h1.gif .
فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله؛ لأن هذه هي الاستقامة، وذلك لأن الانحراف من أحد أمور ثلاثة: إما أن لا يحرص على الأمور النافعة، بل يكسل عنها، وربما اشتغل بضدها، أو يشتغل بها ولكن يتكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب، ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها، أو لا يشتغل بالأسباب النافعة، ويزعم أنه متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب، فهذا الحديث بين فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الطرق النافعة للعبادة.
ولنقتصر على هذا فإنه يحصل به المقصود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.