عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 02-01-2011, 10:28 AM
المتفائل2012 المتفائل2012 غير متواجد حالياً

عضو مشارك

 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 49
افتراضي

التشبت بالأرض

بقلم: حسام عوض
سنة ثانية/ رياضيات
كان يتصبب عرقا،ً وكانت الدموع تنهال غزيرة على وجنتيه المكفهرتين، غضبًا كأنهما فصل من جهنم، أو أضرمت
النار فيهما فبديا كأنهما بصيصًا من نار أو شعلة وقادة تحمل في طياتها الغضب والحزن الشديدين...
كان يدب بين تلك الأشجار الكثيفة رجل بدا وكأنه يجمل على عاتقيه هموم الدنيا بأسرها... كان يتخبط في تلك
الغابة لا يلوي على شيء من هذه الدنيا ولا يدري إلى أين يتجه... كأنه أصيب بمس في عقله أو كأنه غشي على
عينيه فلا يكاد يرى من حوله غير موطئ قدمه...
رمى الظلام أجنحته على تلك الأنحاء وتابع جيشه المنتصر بقايا فلول النهار المنحدر... وما زال ذلك الرجل يصعد
الجبال ويهبط الوديان كأنه قدّ من آلة لا تعرف التعب ولا الراحة... لا يكاد فكره مشغو ً لا إلا بشيء واحد فقط وكلما
يسأله أحدهم ماذا جرى له وما هو اسمه ومن أي ارض هو وأين وجهته... لا يكاد يذكر إلا اسم بلدته الصغيرة التي
ترعرع على ثراها ولعب بين جنابها الباسقة الخضرة الممدودة الأغصان... المتوارفة الظلال... الكثيرة الأشجار...
التي كان يرى فيها رمزًا لوجوده وإثباتًا لشخصيته ومستقب ً لا لأولاده....
اقتلع رغمًا عنه من بلدته الصغيرة التي تقبع على الساحل مرتدية ثوبها المطرز بالذهب والمزركش بالياقوت
والموشى بالجوهر وكانت تزهو وتتمايل بذلك الثوب الوشي كأنها جنة الله في أرضه...
كانت الشمس تبزغ كل صباح مطلقة عنان أشعتها على ذلك الساحل الأخاذ فتبدو تلك البلدة وكأن خيوطًا من نور قد
مدت إليها من عنان السماء فتنعكس من على ذلك البساط الأخضر إلى عين الناظر فتبدو كأنها لوحة فنية بالغة
الجمال.... فائقة السحر....
آه ما أقسى أن يسلب الإنسان إنسانيته ويفقد شخصيته ويتيه في الدنيا باحثًا عن موطن يلجأ إليه... وكلما وصل إلى
مكان وجد نفسه غريبًا عنه... ووجده الناس غريبًا في موطنهم... إلى أين يا ترى يذهب صاحبنا وقد ضاقت الدنيا
رسالة النجاح، العدد ٤٧ ، حزيران ١٩٨٦
٢٩
في وجهه حتى لم يعد فيها متسع له.... ماذا يا الله... ماذا عساه أن يفعل وقد حرم هويته وطرد من وطنه وشرد
بعد أن كان هادئ البال... رضي النفس... سعيد الحال... تدر أرضه عليه الخير والبركة....
برغم الأسى والحزن الذي كان يملئ نفسه كان يراوده بين الحين والحين بصيصًا من أمل بأنه سيرجع يومًا إلى
أرضه ووطنه... إن لم يكن هو فأولاده... وهذا الأمل كان يأتي من مكان بعيد ليجعله في شوق دائم إلى ذلك اليوم
الذي سيعود فيه إلى وطنه رافع الرأس... عزيزًا مكرمًا...
استرق صاحبنا في إحدى الدول العربية قريبًا من بلدة الصغيرة... ليرجع في الحال عندما تلوح له راية النصر
والعودة...
مرت الأيام والسنون وهو يكتم وطنه في قلبه ويحاول أن يستأنف حياة جديدة... مفعمة بالحب والأمل...
استطاع في أعوام قليلة أن يجمع المال الوفير... فاشتغل بالتجارة فأصبحت تدر عليه أرباحًا فوق أرباحه حتى غدا
من كبار التجار... فابتنى لنفسه قصرًا عظيمًا... شامخًا.... تحيط به الجنان من كل جانب... ولا تكاد تضع قدمك
داخ ً لا إليه إلا وينتابك شعور بتلك اللذة العظيمة بأنك داخل إلى الجنة نفسها فيزوغ بصرك فلا يكاد يستقر على شيء
إلا جذبه شيء آخر لشدة الروعة والجمال...
عيشة رغيدة يملك من أسباب الحياة ما مكنه من بلوغ أعلى مراكز المجتمع ومع كل ذلك كان يشعر أنه ما زال
غريبًا... بعيدًا عن وطنه... فكان يراوده بين الحين والحين هاجس يذكره بتلك الأيام التي قضاها على ذلك الساحل
الهادئ اللطيف يداعب أمواج البحر المترنمة بأحلى الأنغام التي تبث في النفس التشبت بالأرض والوطن... فينتابه
الحين إلى بلدته الصغيرة... الساحرة فيتمنى أن يزول كل ما معه من مال وما يملكه من عقارات على أن يعود إلى
وطنه يأكل بكدّه وعرقه من خير أرضه ويتنسم هواء بلدته المليئة بالدفء على أبنائها.... لكي تحضنهم بين أذرعها
وتكسبهم الشعور بالحياة وتمنحهم القوة والمفاخرة بوطنهم وتفضيله على العالم بأسره...
سأله أحدهم كيف يشعر وقد حصل على المال الوفير والمركز الشهير وهو في الوقت نفسه بعيد عن أرضه؟ فأجاب
بعد أن بلع ريقه وأضرمت النار في قلبه وانتابته الرعشة....- أفضل أن أعيش على رمال الشاطئ في وطني آكل
كسرة الخبز على العيش الرغيد في هذا القصر الشاهق... بعيدًا عن وطني.


رد مع اقتباس