أَحْمَدُهُ عَلَى الرَخَاءِ وَالشَدَائِدِ وَأُقِرُّ بِتَوْحِيدِهِ إِقْرَارَ عَابِدِ، وَأُصَلِّي عَلىَ رَسُولِهِ الَّذِي كَانَ لاَ يُخَيَّبِ السَائِلٌ
القَاصِدْ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَيِبِينَ دَوِي الأَخْلاَقْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ الخَلاَئِقْ.
وَبَعْدُ:
يخفى على الكثير من الناس أسرار بكاء الطفل سبحان الله
الحكمة من كثرة بكاء الطفل :4_12_12[1]:
ثم تامل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال وما لهم فيه من المنفعة , فإن الأطباء والطبائعيين شاهدوا ذلك وحكمته
وقالوا : في أدمغة الأطفال رطوبة لو بقيت في أدمغتهم لأحدث أحداثا عظيمة , فالبكاء يسيّل ذلك ويحدره من ادمغتهم
فتقوى أدمغتهم وتصح.
وأيضا فإن البكاء والعياط يوسع عليه مجاري التنفس ويفتح العروق مصابها ويقوّي الأعصاب , وكم من منفعة
ومصلحة فيما تسمعه من بكائه وصراخه , فإذا كانت هذه الحكمة في البكاء الذي سببه ورود الألم المؤذي وأنت لا
تعرفها ولا تكاد تخطر ببالك , وهكذا إيلام الأطفال فيه وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم ما قد تخفى على أكثر
الناس واظطرب عليهم الكلام في حكمة اظطراب الأرشية وسلكوا في هذا الباب مسالك:
فقالت طائفة : ليس إلاّ محض المشيئة العارية من الحكمة والغاية المطلوبة وسدوا على أنفسهم هذا الباب جملةً , وكلما سُئِلٌوا عن شيء أجابوا بــ { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأبياء: 23] وهذا من أصدق الكلام , وليس المراد به نفي حكمته تعالى وعواقب أفعاله الحميدة وغايتها المطلوبة منها , وإنما المراد بالآية إفراده بالألوهية والربوبية ,
وإنه لكمال حكمته لا معقب لحكمه ولا يعترض عليه بالسؤال , لأنه لا يفعل شيء سدى ولا خلق شيء عبثا , وإنما يسأل عن فعله من خرج من الصواب ولم يكن في منفعة ولا فائدة. { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ* لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء 21-23] كيف ساق
الآية في الإنكار على من اتخذ من دونه آلهة لا تساويه فسواها به مع أعظم الفرق , فقوله (لا تسأل عما يفعل) إثبات
لحقيقة الإلهية والإفراد له بالربوبية والإلاهية.
وقوله { وَهُمْ يُسْأَلُونَ}في إصلاح تلك الآلهة المتخذة للإلهية , فإنها مسؤولية مربوبة مدبّرة فكيف يسوي بينها
وبينه مع أعظم الفرقان , فهذا الذي سيق له الكلام فجعلها الجبرية ملجئاً ومعقلاً في إنكار حكمته وتعليل أفعاله
بغاياتها المحمودة وعواقبها السديدة والله الموفق للصواب
وقالت طائفة : الحكمة في ابتلائهم توعويضهم في الآخرة الثواب التام , فقيل لهم : قد كان لكن إيصال الثواب لهم
بدون هذا الإيلام , فأجابوا : بأن توسط الإيلام في حكهم كتوسط التكاليف في حق المكلفين , فقيل لهم : فهذا يتنقص
عليكم بإيلام أطفال الكفار , فأجابوا : بأنا لا نقول بأنهم في الناركما قاله من قاله من الناس , والنار لا يدخلها أحد إلاّ
بذنب وهؤلاء لا ذب لهم , وكذا الكلام معهم في مسالة الأطفال والإحتجاج فيها من الجانبين بما ليس هذا موضعه
فأورد عليهم ما لا جواب لهم عنه وهو إيلام أطفالهم الذين قُدرّ بلزغهم وموتهم على الكفر , فإن هذا لا تعويض فيه
قطعا ولا هو عقوبة على الكفار فإن العقوبة لا تكون سلفاً وتعجيلا , فحاوروا في هذا الموضع واظطربت أصولهم
ولم يأتوا بما يقبله العقل.
وقالت الطائفة الثالثة : هذا السؤال لو تأمله مروده لعلم انه ساقط وإن تكلف الجواب عنه , إلزام ما لم يلزم الآلام
وتوابعها وأسبابها من لوازم النشأة الإنسانية التي لم يخلق منفكّا عنها , فهي كالخر والبرد والجوع , والعطش
والتعب والنصب , والالهم والغم والضعف والعجز , فالسؤال عن حكمة الحاجة إلى الأكل عند الجوع , والحاجة
إلى الشرب عند الضمأ , وإلى النوم والراحة عند التعب , فإن هذه الآلام من لوازم النشاة الإنسانية التي لا ينفك
عنها الإنسان ولا الحيوان فلو تجرد عنها لم يكن إنسانا بل كان ملكا او خلقا آخر , وليست آلام الأطفال بأصعب من
آلام البالغين , لكن لما صارت لهم عادة سهّل موقعها عندهم , وكم بين ما يقاسيه الطفل ويعانيه البالغ العاقل.
المصدر مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.